و اعلم أن هذا التقسيم صحيح و قد كان في أيام الرسول ص منافقون و بقوا بعده و ليس يمكن أن يقال إن النفاق مات بموته و السبب في استتار حالهم بعده أنه ص كان لا يزال بذكرهم بما ينزل عليه من القرآن فإنه مشحون بذكرهم أ لا ترى أن أكثر ما نزل بالمدينة من القرآن مملوء بذكر المنافقين فكان السبب في انتشار ذكرهم و أحوالهم و حركاتهم هو القرآن فلما انقطع الوحي بموته ص لم يبق من ينعى عليهم سقطاتهم و يوبخهم على أعمالهم و يأمر بالحذر منهم و يجاهرهم تارة و يجاملهم تارة و صار المتولي للأمر بعده يحمل الناس كلهم على كاهل المجاملة و يعاملهم بالظاهر و هو الواجب في حكم الشرع و السياسة الدنيوية بخلاف حال الرسول ص فإنه كان تكليفه معهم غير هذا التكليف أ لا ترى أنه قيل له وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً فهذا يدل على أنه كان يعرفهم بأعيانهم و إلا كان النهي له عن الصلاة عليهم تكليف ما لا يطاق و الوالي بعده لا يعرفهم بأعيانهم فليس مخاطبا بما خوطب به ص في أمرهم و لسكوت الخلفاء عنهم بعده خمل ذكرهم فكان قصارى أمر المنافق أن يسر ما في قلبه و يعامل المسلمين بظاهره و يعاملونه بحسب ذلك ثم فتحت عليهم البلاد و كثرت الغنائم فاشتغلوا بها عن الحركات التي كانوا يعتمدونها أيام رسول الله و بعثهم الخلفاء مع الأمراء إلى بلاد فارس و الروم فألهتهم الدنيا عن الأمور التي كانت تنقم منهم في حياة رسول الله ص و منهم من استقام اعتقاده و خلصت نيته لما رأوا الفتوح و إلقاء الدنيا أفلاذ كبدها من الأموال العظيمة و الكنوز الجليلة إليهم فقالوا لو لم يكن هذا الدين شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 42حقا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه و بالجملة لما تركوا تركوا و حيث سكت عنهم سكتوا عن الإسلام و أهله إلا في دسيسة خفية يعملونها نحو الكذب الذي أشار إليه أمير المؤمنين ع فإنه لط الحديث كذب كثير صدر عن قوم غير صحيحي العقيدة قصدوا به الإضلال(12/32)


و تخبيط القلوب و العقائد و قصد به بعضهم التنويه بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي و قد قيل إنه افتعل في أيام معاوية خاصة حديث كثير على هذا الوجه و لم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا بل ذكروا كثيرا من هذه الأحاديث الموضوعة و بينوا وضعها و أن رواتها غير موثوق بهم إلا أن المحدثين إنما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة و لا يتجاسرون في الطعن على أحد من الصحابة لأن عليه لفظ الصحبة على أنهم قد طعنوا في قوم لهم صحبة كبسر بن أرطاة و غيره. فإن قلت من هم أئمة الضلالة الذين يتقرب إليهم المنافقون الذين رأوا رسول الله ص و صحبوه للزور و البهتان و هل هذا إلا تصريح بما تذكره الإمامية و تعتقده. قلت ليس الأمر كما ظننت و ظنوا و إنما يعني معاوية و عمرو بن العاص و من شايعهما على الضلال كالخبر الذي رواه من في حق معاوية اللهم قه العذاب و الحساب و علمه الكتاب و كرواية عمرو بن العاص تقربا إلى قلب معاوية إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله و صالح المؤمنين و كرواية قوم في أيام معاوية أخبارا كثيرة من فضائل عثمان تقربا إلى معاوية بها و لسنا نجحد فضل عثمان و سابقته و لكنا نعلم أن بعض الأخبار الواردة فيه موضوع كخبر عمرو بن مرة فيه و هو مشهور و عمر بن مرة ممن له صحبة و هو شامي
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 43ذكر بعض ما مني به آل البيت من الأذى و الاضطهادو ليس يجب من قولنا إن بعض الأخبار الواردة في حق شخص فاضل مفتعلة أن تكون قادحة في فضل ذلك الفاضل فإنا مع اعتقادنا أن عليا أفضل الناس نعتقد أن بعض الأخبار الواردة في فضائله مفتعل و مختلق. و قد روي(12/33)


أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر ع قال لبعض أصحابه يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا و تظاهرهم علينا و ما لقي شيعتنا و محبونا من الناس إن رسول الله ص قبض و قد أخبر أنا أولى الناس بالناس فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه و احتجت على الأنصار بحقنا و حجتنا ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا و نصبت الحرب لنا و لم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتى قتل فبويع الحسن ابنه و عوهد ثم غدر به و أسلم و وثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه و نهبت عسكره و عولجت خلاليل أمهات أولاده فوادع معاوية و حقن دمه و دماء أهل بيته و هم قليل حق قليل ثم بايع الحسين ع من أهل العراق عشرون ألفا ثم غدروا به و خرجوا عليه و بيعته في أعناقهم و قتلوه ثم لم نزل أهل البيت نستذل و نستضام و نقصى و نمتهن و نحرم و نقتل و نخاف و لا نأمن على دمائنا و دماء أوليائنا و وجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم و جحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم و قضاة السوء و عمال السوء في كل بلدة فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة و رووا عنا ما لم نقله و ما لم نفعله ليبغضونا إلى الناس و كان عظم ذلك و كبره زمن معاوية بعد موت الحسن ع فقتلت شيعتنا بكل بلدة و قطعت الأيدي و الأرجل على الظنة و كان من يذكر بحبنا و الانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره ثم لم يزل البلاء يشتد و يزداد شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 44إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين ع ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة و أخذهم بكل ظنة تهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي و حتى صار الرجل الذي يذكر بالخير و لعله يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة و لم يخلق الله تعالى شيئا منها و لا كانت و لا وقعت و هو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب و لا بقلة ورع(12/34)


و روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث قال كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب و أهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة و على كل منبر يلعنون عليا و يبرءون منه و يقعون فيه و في أهل بيته و كان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي ع فاستعمل عليهم زياد ابن سمية و ضم إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة و هو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي ع فقتلهم تحت كل حجر و مدر و أخافهم و قطع الأيدي و الأرجل و سمل العيون و صلبهم على جذوع النخل و طرفهم و شردهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم و كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي و أهل بيته شهادة و كتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبيه و أهل ولايته و الذين يروون فضائله و مناقبه فادنوا مجالسهم و قربوهم و أكرموهم و اكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم و اسمه و اسم أبيه و عشيرته. ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان و مناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات و الكساء و الحباء و القطائع و يفيضه في العرب منهم و الموالي فكثر ذلك في كل مصر و تنافسوا في المنازل و الدنيا فليس يجي ء أحد مردود من الناس عاملا من شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 45عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه و قربه و شفعه فلبثوا بذلك حينا. ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر و فشا في كل مصر و في كل وجه و ناحية فإذا جا كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة و الخلفاء الأولين و لا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا و تأتوني بمناقض له في الصحابة فإن هذا أحب إلى و أقر لعيني و أدحض لحجة أبي تراب و شيعته و أشد عليهم من مناقب عثمان و فضله. فقرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة(12/35)


لها وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر و ألقي إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم و غلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه و تعلموه كما يتعلمون القرآن و حتى علموه بناتهم و نساءهم و خدمهم و حشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله. ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا و أهل بيته فامحوه من الديوان و أسقطوا عطاءه و رزقه و شفع ذلك بنسخة أخرى من اتهمتموه بمولاه هؤلاء القوم فنكلوا به و أهدموا داره فلم يكن البلاء أشد و لا أكثر منه بالعراق و لا سيما بالكوفة حتى أن الرجل من شيعة علي ع ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سره و يخاف من خادمه و مملوكه و لا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه فظهر حديث كثير موضوع و بهتان منتشر و مضى على ذلك الفقهاء و القضاة و الولاة و كان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون و المستضعفون الذين يظهرون الخشوع و النسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم و يقربوا مجالسهم و يصيبوا به الأموال و الضياع(12/36)

125 / 151
ع
En
A+
A-