نهكتكم بكسر الهاء أدنفتكم و أذابتكم و يجوز فتح الهاء و قد نهك الرجل أي دنف و ضني فهو منهوك و عليه نهكه المرض أي أثرة الحرب مؤنثة. و قد أخذت منكم و تركت أي لم تستأصلكم بل فيكم بعد بقية و هي لعدوكم أنهك لأن القتل في أهل الشام كان أشد استحرارا و الوهن فيهم أظهر و لو لا فساد أهل العراق برفع المصاحف لاستؤصل الشام و خلص الأشتر إلى معاوية فأخذه بعنقه و لم يكن قد بقي من قوة الشام إلا كحركة ذنب الوزغة عند قتلها يضطرب يمينا و شمالا و لكن الأمور السماوية لا تغالب. فأما قوله كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا فقد قدمنا شرح حالهم من قبل و أن أهل العراق لما رفع عمرو بن العاص و من معه المصاحف على وجه المكيدة شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 30حين أحس بالعطب و علو كلمة أهل الحق ألزموا أمير المؤمنين ع بوضع أوزار الحرب و كف الأيدي عن القتال و كانوا في ذلك على أقسام فمنهم من دخلت عه الشبهة برفع المصاحف و غلب على ظنه أن أهل الشام لم يفعلوا ذلك خدعة و حيلة بل حقا و دعاء إلى الدين و موجب الكتاب فرأى أن الاستسلام للحجة أولى من الإصرار على الحرب. و منهم من كان قد مل الحرب و آثر السلم فلما رأى شبهة ما يسوغ التعلق بها في رفض المحاربة و حب العافية أخلد إليهم. و منهم من كان يبغض عليا ع بباطنه و يطيعه بظاهره كما يطيع كثير من الناس السلطان في الظاهر و يبغضه بقلبه فلما وجدوا طريقا إلى خذلانه و ترك نصرته أسرعوا نحوها فاجتمع جمهور عسكره عليه و طالبوه بالكف و ترك القتال فامتنع امتناع عالم بالمكيدة و قال لهم إنها حيلة و خديعة و إني أعرف بالقوم منكم إنهم ليسوا بأصحاب قرآن و لا دين قد صحبتهم و عرفتهم صغيرا و كبيرا فعرفت منهم الإعراض عن الدين و الركون إلى الدنيا فلا تراعوا برفع المصاحف و صمموا على الحرب و قد ملكتموهم فلم يبق منهم إلا حشاشة ضعيفة و ذماء قليل فأبوا عليه و ألحوا و أصروا على القعود و الخذلان و أمروه(12/22)
بالإنفاذ إلى المحاربين من أصحابه و عليهم الأشتر أن يأمرهم بالرجوع و تهددوه إن لم يفعل بإسلامه إلى معاوية فأرسل إلى الأشتر يأمره بالرجوع و ترك الحرب فأبى عليه فقال كيف أرجع و قد لاحت أمارات الظفر فقولوا له ليمهلني ساعة واحدة و لم يكن علم صورة الحال كيف قد وقعت فلما عاد إليه الرسول بذلك غضبوا و نفروا و شغبوا و قالوا أنفذت إلى الأشتر سرا و باطنا تأمره بالتصميم و تنهاه عن الكف و إن لم تعده الساعة و إلا قتلناك كما قتلنا عثمان فرجعت الرسل إلى الأشتر فقالوا له أ تحب أن تظفر بمكانك و أمير المؤمنين قد سل عليه شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 31خمسون ألف سيف فقال ما الخبر قال إن الجيش بأسره قد أحدق به و هو قاعد بينهم على الأرض تحته نطع و هو مطرق و البارقة تلمع على رأسه يقولون لئن لم تعد الأشتر قتلناك قال ويحكم ف سبب ذلك قالوا رفع المصاحف قال و الله لقد ظننت حين رأيتها رفعت أنها ستوقع فرقة و فتنة. ثم كر راجعا على عقبيه فوجد أمير المؤمنين ع تحت الخطر قد ردده أصحابه بين أمرين إما أن يسلموه إلى معاوية أو يقتلوه و لا ناصر له منهم إلا ولداه و ابن عمه و نفر قليل لا يبلغون عشرة فلما رآهم الأشتر سبهم و شتمهم و قال ويحكم أ بعد الظفر و النصر صب عليكم الخذلان و الفرقة يا ضعاف الأحلام يا أشباه النساء يا سفهاء العقول فشتموه و سبوه و قهروه و قالوا المصاحف المصاحف و الرجوع إليها لا نرى غير ذلك فأجاب أمير المؤمنين ع إلى التحكيم دفعا للمحذور الأعظم بارتكاب المحظور الأضعف فلذلك قال كنت أميرا فأصبحت مأمورا و كنت ناهيا فصرت منهيا و قد سبق من شرح حال التحكيم و ما جرى فيه ما يغني عن إعادته
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20232- و من كلام له ع بالبصرة و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثيو هو من أصحابه يعوده فلما رأى سعة داره قال(12/23)
مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسَعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا أَمَا أَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآْخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ وَ بَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآْخِرَةَ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وَ تَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآْخِرَةَ فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ قَالَ وَ مَا لَهُ قَالَ لَبِسَ الْعَبَاءَ وَ تَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا قَالَ عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ أَ تَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَ هُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ قَالَ وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْحَقِّ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ(12/24)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 33كنت هاهنا زائدة مثل قوله تعالى كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. و قوله و بلى إن شئت بلغت بها الآخرة لفظ فصيح كأنه استدرك و قال و بلى على أنك قد تحتاج إليها في الدنيا لتجعلها وصلة إلى نبل الآخرة بأن تقري فيهالضيف و الضيف لفظ يقع على الواحد و الجمع و قد يجمع فيقال ضيوف و أضياف و الرحم القرابة. و تطلع منها الحقوق مطالعها توقعها في مظان استحقاقها. و العباء جمع عباءة و هي الكساء و قد تلين كما قالوا عظاءة و عظاية و صلاءة و صلاية. و تقول علي بفلان أي أحضره و الأصل أعجل به علي فحذف فعل الأمر و دل الباقي عليه. و يا عدي نفسه تصغير عدو و قد يمكن أن يراد به التحقير المحض هاهنا. و يمكن أن يراد به الاستعظام لعداوته لها و يمكن أن يخرج مخرج التحنن و الشفقة كقولك يا بني. و استهام بك الخبيث يعني الشيطان أي جعلك هائما ضالا و الباء زائدة. فإن قيل ما معنى قوله ع أنت أهون على الله من ذلك. قلت لأن في المشاهد قد يحل الواحد منا لصاحبه فعلا مخصوصا محاباة و مراقبة له شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 34و هو يكره أن يفعله و البشر أهون على الله تعالى من أن يحل لهم أمرا مجاملة و استصلاحا للحال هم و هو يكره منهم فعله. و قوله هذا أنت أي فما بالنا نراك خشن الملبس و التقدير فها أنت تفعل كذا فكيف تنهى عنه. و طعام جشب أي غليظ و كذلك مجشوب و قيل إنه الذي لا أدم معه. قوله ع أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس أي يشبهوا و يمثلوا. و تبيغ الدم بصاحبه و تبوغ به أي هاج به و
في الحديث عليكم بالحجامة لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله
و قيل أصل يتبيغ يتبغى فقلب جذب و جبذ أي يجب على الإمام العادل أن يشبه نفسه في لباسه و طعامه بضعفة الناس جمع ضعيف لكيلا يهلك الفقراء من الناس فإنهم إذا رأوا إمامهم بتلك الهيئة و بذلك المطعم كان أدعى لهم إلى سلوان لذات الدنيا و الصبر عن شهوات النفوس(12/25)
ذكر بعض مقامات العارفين و الزهاد
و روي أن قوما من المتصوفة دخلوا خراسان على علي بن موسى الرضا فقالوا له إن أمير المؤمنين فكر فيما ولاه الله من الأمور فرآكم أهل البيت أولى الناس أن تؤموا الناس و نظر فيك من أهل البيت فرآك أولى الناس بالناس فرأى أن يرد هذا الأمر إليك و الإمامة تحتاج إلى من يأكل الجشب و يلبس الخشن و يركب الحمار و يعود المريض فقال لهم إن يوسف كان نبيا يلبس أقبية الديباج المزررة بالذهب و يجلس على متكآت آل فرعون ويحكم إنما يراد من الإمام قسطه و عدله إذا قال صدق شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 35و إذا حكم عدل و إذا وعد أنجز إن الله ليحرم لبوسا و لا مطعما ثم قرأ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ الآية. و هذا القول مخالف للقانون الذي أشار أمير المؤمنين إليه و للفلاسفة في هذا الباب كلام لا بأس به و قد أشار إليه أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات و عليه يتخرج قولا أمير المؤمنين و علي بن موسى الرضا ع قال أبو علي في مقامات العارفين العارفون قد يختلفون في الهمم بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر على حسب ما يختلف عندهم من دواعي العبر فربما استوى عند العارف القشف و الترف بل ربما آثر القشف و كذلك ربما سوى عنده التفل و العطر بل ربما آثر التفل و ذلك عند ما يكون الهاجس بباله استحقار ما عدا الحق و ربما صغا إلى الزينة و أحب من كل شي ء عقيلته و كره الخداج و السقط و ذلك عند ما يعتبر عادته من صحبته الأحوال الظاهرة فهو يرتاد إليها في كل شي ء لأنه مزية وة من العناية الأولى و أقرب أن يكون من قبيل ما عكف عليه بهواه و قد يختلف هذا في عارفين و قد يختلف في عارف بحسب وقتين. و اعلم أن الذي رويته عن الشيوخ و رأيته بخط عبد الله بن أحمد بن الخشاب رحمه الله أن الربيع بن زياد الحارثي أصابته نشابة في جبينه فكانت تنتقض عليه في كل عام فأتاه علي ع(12/26)