قد تقدم منا ذكر ما عتب به طلحة و الزبير على أمير المؤمنين ع و أنهما قالا ما نراه يستشيرنا في أمر و لا يفاوضنا في رأي و يقطع الأمر دوننا و يستبد بالحكم عنا و كانا يرجوان غير ذلك و أراد طلحة أن يوليه البصرة و أراد الزبير أن يوليه الكوفة فلما شاهدا صلابته في الدين و قوته في العزم و هجره الادهان و المراقبة و رفضه المدالسة و المواربة و سلوكه في جميع مسالكه منهج الكتاب و السنة و قد كانا يعلمان ذلك قديما من طبعه و سجيته و كان عمر قال لهما و لغيرهما إن الأجلح إن وليها ليحملنكم على المحجة البيضاء و الصراط المستقيم و(12/7)
كان رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 11من قبل قال و إن تولوها عليا تجدوه هاديا مهدياإلا أنه ليس الخبر كالعيان و لا القول كالفعل و لا الوعد كالإنجاز و حالا عنه و تنكرا له و وقعا فيه و عاباه و غمصاه و تطلبا له العلل و التأويلات و تنقما عليه الاستبداد و ترك المشاورة و انتقلا من ذلك إلى الوقيعة فيه بمساواة الناس في قسمة المال و أثنيا على عمر و حمدا سيرته و صوبا رأيه و قالا إنه كان يفضل أهل السوابق و ضللا عليا ع فيما رآه و قالا إنه أخطأ و إنه خالف سيرة عمر و هي السيرة المحمودة التي لم تفضحها النبوة مع قرب عهدنا منها و اتصالها بها و استنجدا عليه بالرؤساء من المسلمين كان عمر يفضلهم و ينفلهم في القسم على غيرهم و الناس أبناء الدنيا و يحبون المال حبا جما فتنكرت على أمير المؤمنين ع بتنكرهما قلوب كثيرة و نغلت عليه نيات كانت من قبل سليمة و لقد كان عمر موفقا حيث منع قريشا و المهاجرين و ذوي السوابق من الخروج من المدينة و نهاهم عن مخالطة الناس و نهى الناس عن مخالطتهم و رأى أن ذلك أس الفساد في الأرض و أن الفتوح و الغنائم قد أبطرت المسلمين و متى بعد الرءوس و الكبراء منهم عن دار الهجرة و انفردوا بأنفسهم و خالطهم الناس في البلاد البعيدة لم يأمن أن يحسنوا لهم الوثوب و طلب الإمرة و مفارقة الجماعة و حل نظام الألفة و لكنه رضي الله عنه نقض هذا الرأي السديد بما فعله بعد طعن أبي لؤلؤة له من أمر الشورى فإن ذلك كان سبب كل فتنة وقعت و تقع إلى أن تنقضي الدنيا و قد قدمنا ذكر ذلك و شرحنا ما أدى إليه أمر الشورى من الفساد بما حصل في نفس كل من الستة من ترشيحه للخلافة. شرح نهجلبلاغة ج : 11 ص : 12و روى أبو جعفر الطبري في تاريخه قال كان عمر قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن و أجل فشكوه فبلغه فقام فخطب فقال ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا ثم يكون(12/8)
رباعيا ثم سديسا ثم بازلا ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان ألا و إن الإسلام قد صار بازلا و إن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات على ما في أنفسهم ألا إن في قريش من يضمر الفرقة و يروم خلع الربقة أما و ابن الخطاب حي فلا إني قائم دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش و حجزها أن يتهافتوا في النار. و قال أبو جعفر الطبري في التاريخ أيضا فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان عمر يأخذهم به فخرجوا إلى البلاد فلما نزلوها و رأوا الدنيا و رآهم الناس خمل من لم يكن له طول و لا قدم في الإسلام و نبه أصحاب السوابق و الفضل فانقطع إليهم الناس و صاروا أوزاعا معهم و أملوهم و تقربوا إليهم و قالوا يملكون فيكون لنا في ملكهم حظوة فكان ذلك أول وهن على الإسلام و أول فتنة كانت في العامة. و روى أبو جعفر الطبري عن الشعبي قال لم يمت عمر حتى ملته قريش و قد كان حصرهم بالمدينة و سألوه أن يأذن لهم في الخروج إلى البلاد فامتنع عليهم و قال إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد حتى أن الرجل كان يستأذنه في غزو الروم أو الفرس و هو ممن حبسه بالمدينة من قريش و لا سيما من المهاجرين فيقول له إن لك في غزوك مع رسول الله ص ما يكفيك و يبلغك و يحسبك و هو خير لك من الغزو اليوم و إن خيرا لك ألا ترى الدنيا و لا تراك.(12/9)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 13فلما مات عمر و ولي عثمان خلى عنهم فانتشروا في البلاد و اضطربوا و انقطع إليهم الناس و خالطوهم فلذلك كان عثمان أحب إلى قريش من عمر. فقد بان لك حسن رأي عمر في منع المهاجرين و أهل السابقة من قريش من مخالطة الناس و الخروج من المدة و بان لك أن عثمان أرخى لهم في الطول فخالطهم الناس و أفسدوهم و حببوا إليهم الملك و الإمرة و الرئاسة لا سيما مع الثروة العظيمة التي حصلت لهم و الثراء مفسدة و أي مفسدة و حصل لطلحة و الزبير من ذلك ما لم يحصل لغيرهما ثروة و يسارا و قدما في الإسلام و صار لهما لفيف عظيم من المسلمين يمنونهما الخلافة و يحسنون لهما طلب الإمرة لا سيما و قد رشحهما عمر لها و أقامهما مقام نفسه في تحملها و أي امرئ منى بها قط نفسه ففارقها حتى يغيب في اللحد و لا سيما طلحة قد كان يحدث بها نفسه و أبو بكر حي و يروم أن يجعلها فيه بشبهة أنه ابن عمه و سخط خلافة عمر و قال لأبي بكر ما تقول لربك و قد وليت علينا فظا غليظا و كان له في أيام عمر قوم يجلسون إليه و يحادثونه سرا في معنى الخلافة و يقولون له لو مات عمر لبايعناك بغتة جلب الدهر علينا ما جلب و بلغ ذلك عمر فخطب الناس بالكلام المشهور أن قوما يقولون إن بيعة أبي بكر كانت فلتة و إنه لو مات عمر لفعلنا و فعلنا أما إن بيعة أبي بكر كانت فلتة إلا أن الله وقى شرها و ليس فيكم من تقطع إليه الرقاب كأبي بكر فأي امرئ بايع امرأ من غير مشورة من المسلمين فإنهما بغرة أن يقتلا فلما صارت إلى عثمان سخطها طلحة بعد أن كان رضيها و أظهر ما في نفسه و ألب عليه حتى قتل و لم يشك أن الأمر له فلما صارت إلى علي ع حدث منه ما حدث و آخر الدواء الكي. و أما الزبير فلم يكن إلا علوي الرأي شديد الولاء جاريا من الرجل مجرى نفسه. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 14و يقال إنه ع لما استنجد بالمسين عقيب يوم السقيفة و ما جرى فيه و كان يحمل فاطمة ع ليلا على حمار و(12/10)
ابناها بين يدي الحمار و هو ع يسوقه فيطرق بيوت الأنصار و غيرهم و يسألهم النصرة و المعونة أجابه أربعون رجلا فبايعهم على الموت و أمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رءوسهم و معهم سلاحهم فأصبح لم يوافه منهم إلا أربعة الزبير و المقداد و أبو ذر و سلمان ثم أتاهم من الليل فناشدهم فقالوا نصبحك غدوة فما جاءه منهم إلا أربعة و كذلك في الليلة الثالثة و كان الزبير أشدهم له نصرة و أنفذهم في طاعته بصيرة حلق رأسه و جاء مرارا و في عنقه سيفه و كذلك الثلاثة الباقون إلا أن الزبير هو كان الرأس فيهم و قد نقل الناس خبر الزبير لما هجم عليه ببيت فاطمة ع و كسر سيفه في صخرة ضربت به و نقلوا اختصاصه بعلي ع و خلواته به و لم يزل مواليا له متمسكا بحبه و مودته حتى نشأ ابنه عبد الله و شب فنزع به عرق من الأم و مال إلى تلك الجهة و انحرف عن هذه و محبة الوالد للولد معروفة فانحرف الزبير لانحرافه على أنه قد كانت جرت بين علي ع و الزبير هنات في أيام عمر كدرت القلوب بعض التكدير و كان سببها قصة موالي صفية و منازعة علي للزبير في الميراث فقضى عمر للزبير فأذعن علي ع لقضائه بحكم سلطانه لا رجوعا عما كان يذهب إليه من حكم الشرع في هذه المسألة و بقيت في نفس الزبير على أن شيخنا أبا جعفر الإسكافي رحمه الله ذكر في كتاب نقض العثمانية عن الزبير كلاما إن صح فإنه يدل على انحراف شديد و رجوع عن موالاة أمير المؤمنين ع. قال تفاخر علي ع و الزبير فقال الزبير أسلمت بالغا و أسلمت طفلا و كنت أول من سل سيفا في سبيل الله بمكة و أنت مستخف في الشعب يكفلك الرجال(12/11)