و من لم يذهب إلى ذات الجنب فأولوا قول علي ع فاضت بين نحري و صدري نفسك فقالوا أراد بذلك آخر الأنفاس التي يخرجها الميت و لا يستطيع إدخال الهواء إلى الرئة عوضا عنها و لا بد لكل ميت من نفخة تكون آخر حركاته. و يقول قوم إنها الروح و عبر علي ع عنها بالنفس لما كانت العرب لا ترى بين الروح و النفس فرقا. و اعلم أن الأخبار مختلفة في هذا المعنى فقد
روى كثير من المحدثين عن عائشة أنها قالت توفي رسول الله ص بين سحري و نحري
و روى كثير منهم هذا اللفظ عن علي ع أنه قال عن نفسه و
قال في رواية أخرى ففاضت نفسه في يدي فأمررتها على وجهي(11/229)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 268و الله أعلم بحقيقة هذه الحال و لا يبعد عندي أن يصدق الخبران معا بأن يكون رسول الله ص وقت الوفاة مستندا إلى علي و عائشة جميعا فقد وقع الاتفاق على أنه مات و هو حاضر لموته و هو الذي كان يقلبه بعد موته و هو الذي كان يعلله لياليرضه فيجوز أن يكون مستندا إلى زوجته و ابن عمه و مثل هذا لا يبعد وقوعه في زماننا هذا فكيف في ذلك الزمان الذي كان النساء فيه و الرجال مختلطين لا يستتر البعض عن البعض. فإن قلت فكيف تعمل بآية الحجاب و ما صح من استتار أزواج رسول الله ص عن الناس بعد نزولها. قلت قد وقع اتفاق المحدثين كلهم على أن العباس كان ملازما للرسول ص أيام مرضه في بيت عائشة و هذا لا ينكره أحد فعلى القاعدة التي كان العباس ملازمه ص كان علي ع ملازمه و ذلك يكون بأحد الأمرين إما بأن نساءه لا يستترن من العباس و علي لكونهما أهل الرجل و جزءا منه أو لعل النساء كن يختمرن بأخمرتهن و يخالطن الرجال فلا يرون وجوههن و ما كانت عائشة وحدها في البيت عند موته بل كان نساؤه كلهن في البيت و كانت ابنته فاطمة عند رأسه ص. فأما حديث مرضه ص و وفاته فقد ذكرناه فيما تقدم. قوله إنا لله إلى آخره أي عبيده كما تقول هذا الشي ء زيد أي يملكه. ثم عقب الاعتراف بالملكية بالإقرار بالرجعة و البعث و هذه الكلمة تقال عند المصيبة كما أدب الله تعالى خلقه و عباده. و الوديعة و الرهينة عبارة عن فاطمة و من هذا الموضع أخذ ابن ثوابة الكاتب قوله عن قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون لما حملت من مصر إلى المعتضد أحمد بن شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 269طلحة بن المتوكل و قد وصلت الوديعة سالمة و الله المحمود و كيف يوصي الناظر بنوره أم كيف يحض القلب على حفظ سروره. و أخذ الصابي هذه اللفظة أيضا فكتب عن عز الدولة بختيار بن بويه إلى عدة الدولة أبي تغلب بحمدان و قد نقل إليه ابنته قد وجهت الوديعة يا سيدي و إنما تقلب من وطن(11/230)


إلى سكن و من مغرس إلى مغرس و من مأوى بر و انعطاف إلى مثوى كرامة و ألطاف. فأما الرهينة فهي المرتهنة يقال للمذكر هذا رهين عندي على كذا و للأنثى هذه رهينة عندي على كذا كأنها ع كانت عنده عوضا من رؤية رسول الله ص كما تكون الرهينة عوضا عن الأمر الذي أخذت رهينة عليه. ثم ذكر ع أن حزنه دائم و أنه يسهر ليله و لا ينام إلى أن يلتحق برسول الله ص و يجاوره في الدار الآخرة و هذا من باب المبالغة كما يبالغ الخطباء و الكتاب و الشعراء في المعاني لأنه ع ما سهر منذ ماتت فاطمة و دام سهره إلى أن قتل ع و إنما سهر ليلة أو شهرا أو سنة ثم استمر مريره و ارعوى رسنه فأما الحزن فإنه لم يزل حزينا إذا ذكرت فاطمة هكذا وردت الرواية عنه. قوله ع و ستنبئك ابنتك أي ستعلمك. فأحفها السؤال أي استقص في مسألتها و استخبرها الحال أحفيت إحفاء في السؤال استقصيت و كذلك في الحجاج و المنازعة قال الحارث بن حلزة
إن إخواننا الأراقم يغلون علينا في قيلهم إحفاء
و رجل حفي أي مستقص في السؤال. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 270و استخبرها الحال أي عن الحال فحذف الجار كقولك اخترت الرجال زيدا أي من الرجال أي سلها عما جرى بعدك من الاستبداد بعقد الأمر دون مشاورتنا و لا يدل هذا على وجود النص لأنه يجوز أن تكون الشكوى و التألمن إطراحهم و ترك إدخالهم في المشاورة فإن ذلك مما تكرهه النفوس و تتألم منه و هجا الشاعر قوما فقال
و يقضى الأمر حين تغيب تيم و لا يستأذنون و هم شهود
قوله هذا و لم يطل العهد و لم يخلق الذكر أي لم ينس. فإن قلت فما هذا الأمر الذي لم ينس و لم يخلق إن لم يكن هناك نص. قلت
قوله ص إني مخلف فيكم الثقلين
و قوله اللهم أدر الحق معه حيث دار(11/231)


و أمثال ذلك من النصوص الدالة على تعظيمه و تبجيله و منزلته في الإسلام فهو ع كان يريد أن يؤخر عقد البيعة إلى أن يحضر و يستشار و يقع الوفاق بينه و بينهم على أن يكون العقد لواحد من المسلمين بموجبه إما له أو لأبي بكر أو لغيرهما و لم يكن ليليق أن يبرم الأمر و هو غير حاضر له مع جلالته في الإسلام و عظيم أثره و ما ورد في حقه من وجوب موالاته و الرجوع إلى قوله و فعله فهذا هو الذي كان ينقم ع و منه كان يتألم و يطيل الشكوى و كان ذلك في موضعه و ما أنكر إلا منكرا فأما النص فإنه لم يذكره ع و لا احتج به و لما طال الزمان صفح عن ذلك الاستبداد الذي وقع منهم و حضر عندهم فبايعهم و زال ما كان في نفسه. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 271فإن قلت فهل كان يسوغ لأبي بكر و قد رأى وثوب الأنصار على الأمر أن يؤخره إلى أن يخرج ع و يحضر المشورة. قلت إنه لم يلم أبا بكر بعينه و إنما تألم من استبداالصحابة بالأمر دون حضوره و مشاورته و يجوز أن يكون أكثر تألمه و عتابه مصروفا إلى الأنصار الذين فتحوا باب الاستبداد و التغلب
ما رواه أبو حيان في حديث السقيفة(11/232)


و روى القاضي أبو حامد أحمد بن بشير المروروذي العامري فيما حكاه عنه أبو حيان التوحيدي قال أبو حيان سمرنا عند القاضي أبي حامد ليلة ببغداد بدار ابن جيشان في شارع الماذيان فتصرف الحديث بنا كل متصرف و كان و الله معنا مزيلا مخلطا عزيز الرواية لطيف الدراية له في كل جو متنفس و في كل نار مقتبس فجرى حديث السقيفة و تنازع القوم الخلافة فركب كل منا فنا و قال قولا و عرض بشي ء و نزع إلى مذهب فقال أبو حامد هل فيكم من يحفظ رسالة أبي بكر إلى علي و جواب علي له و مبايعته إياه عقيب تلك الرسالة فقالت الجماعة لا و الله فقال هي والله من درر الحقاق المصونة و مخبئات الصناديق في الخزائن المحوطة و منذ حفظتها ما رويتها إلا للمهلبي في وزارته فكتبها عني في خلوة بيده و قال لا أعرف في الأرض رسالة شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 272أعقل منها و لا أبين و إنها لتدل على علم و حكم و فصاحة و فقاهة دين و دهاء و بعد غور و شدة غوص. فقال له واحد من القوم أيها القاضي فلو أتممت المنة علينا بروايتها سمعناها و رويناه عنك فنحن أوعى لها من المهلبي و أوجب ذماما عليك. فقال هذه الرسالة رواها عيسى بن دأب عن صالح بن كيسان عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن أبي عبيدة بن الجراح. قال أبو عبيدة لما استقامت الخلافة لأبي بكر بين المهاجرين و الأنصار و لحظ بعين الوقار و الهيبة بعد هنة كاد الشيطان بها يسر فدفع الله شرها و أدحض عسرها فركد كيدها و تيسر خيرها و قصم ظهر النفاق و الفسق بين أهلها بلغ أبا بكر عن علي ع تلكؤ و شماس و تهمهم و نفاس فكره أن يتمادى الحال و تبدو له العورة و تنفرج ذات البين و يصير ذلك دريئة لجاهل مغرور أو عاقل ذي دهاء أو صاحب سلامة ضعيف القلب خوار العنان دعاني في خلوة فحضرته و عنده عمر وحده و كان عمر قبسا له و ظهيرا معه يستضي ء بناره و يستملي من لانه فقال لي يا أبا عبيدة ما أيمن ناصيتك و أبين الخير بين عارضيك لقد(11/233)

115 / 151
ع
En
A+
A-