تعالى و التلزم بالدين و لا يظن بعلي ع التساهل و التسامح في صغير من ذلك و لا كبير. و منها شبهة الخوارج و هي التحكيم و قد يحتج به على أنه اعتمد ما لا يجوز في الشرع و قد يحتج به على أنه اعتمد ما ليس بصواب في تدبير الأمر أما الأول فقولهم إنه حكم الرجال في دين الله و الله سبحانه يقول إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ و أما الثاني فقولهم إنه كان قد لاح له النصر و ظهرت أمارات الظفر بمعاوية و لم يبق إلا أن يأخذ برقبته فترك التصميم على ذلك و أخلد إلى التحكيم و ربما قالوا إن تحكيمه يدل على شك منه في أمره و ربما قالوا كيف رضي بحكومة أبي موسى و هو فاسق عنده بتثبيطه أهل الكوفة عنه في حرب البصرة و كيف رضي بتحكيم عمرو بن العاص و هو أفسق الفاسقين. و الجواب أما تحكيم الرجال في الدين فليس بمحظور فقد أمر الله تعالى بالتحكيم بين المرأة و زوجها فقال وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 252مِنْ أَهْلِهاو قال في جزاء الصيد يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ. و أما قولهم كيف ترك التصميم بعد ظهور أمارات النصر فقد تواتر الخبر بأن أصحابه لما رفع أهل الشام المصاحف عند ظهور أهل العراق عليهم و مشارفة هلاك معاوية و أصحابه انخدعوا برفع المصاحف و قالوا لا يحل لنا التصميم على حربهم و لا يجوز لنا إلا وضع السلاح و رفع الحرب و الرجوع إلى المصاحف و حكمها فقال لهم إنها خديعة و إنها كلمة حق يراد بها باطل و أمرهم بالصبر و لو ساعة واحدة فأبوا ذلك و قالوا أرسل إلى الأشتر فليعد فأرسل إليه فقال كيف أعود و قد لاحت أمارات النصر و الظفر فقالوا له ابعث إليه مرة أخرى فبعث إليه فأعاد الجواب بنحو قوله الأول و سأل أن يمهل ساعة من النهار فقالوا إن بينك و بينه وصية ألا يقبل فإن لم تبعث إليه من يعيده و إلا قتلناك بسيوفنا كما قتلنا عثمان أو قبضنا عليك و أسلمناك(11/214)


إلى معاوية فعاد الرسول إلى الأشتر فقال أ تحب أن تظفر أنت هاهنا و تكسر جنود الشام و يقتل أمير المؤمنين ع في مضربه قال أ و قد فعلوها لا بارك الله فيهم أ بعد أن أخذت بمخنق معاوية و رأى الموت عيانا أرجع ثم عاد فشتم أهل العراق و سبهم و قال لهم و قالوا له ما هو منقول مشهور و قد ذكرنا الكثير منه فيما تقدم. فإذا كانت الحال وقعت هكذا فأي تقصير وقع من أمير المؤمنين ع و هل ينسب المغلوب على أمره المقهور على رأيه إلى تقصير أو فساد تدبير. و بهذا نجيب عن قولهم إن التحكيم يدل على الشك في أمره لأنه إنما يدل على ذلك لو ابتدأ هو به فأما إذا دعاه إلى ذلك غيره و استجاب إليه أصحابه فمنعهم و أمرهم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 253أن يمروا على وتيرتهم و شأنهم فلم يفعلوا و بين لهم أنها مكيدة فلم يتبينوا و خاف أن يقتل أو يسلم إلى عدوه فإنه لا يدل تحكيمه على شكه بل يدل على أنه قد دفع بذلك ضررا عظيما عن نفسه و رجا يحكم الحكمان بالكتاب فتزول الشبهة عمن طلب التحكيم من أصحابه. و أما تحكيمه عمرا مع ظهور فسقه فإنه لم يرض به و إنما رضي به مخالفه و كرهه هو فلم يقبل منه و قد قيل إنه أجاب ابن عباس رحمه الله عن هذا فقال للخوارج أ ليس قد قال الله تعالى فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها أ رأيتم لو كانت المرأة يهودية فبعثت حكما من أهلها أ كنا نسخط ذلك. و أما أبو موسى فقد كرهه أمير المؤمنين ع و أراد أن يجعل بدله عبد الله بن عباس فقال أصحابه لا يكون الحكمان من مضر فقال فالأشتر فقالوا و هل أضرم النار إلا الأشتر و هل جر ما ترى إلا حكومة الأشتر و لكن أبا موسى فأباه فلم يقبلوا منه و أثنوا عليه و قالوا لا نرضى إلا به فحكمه على مضض. و منها قولهم ترك الرأي لما دعاه العباس وقت وفاة الرسول ص إلى البيعة و قال له امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله ص بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان فلم يفعل و قال(11/215)


و هل يطمع فيها طامع غيري فما راعه إلا الضوضاء و اللغط في باب الدار يقولون قد بويع أبو بكر بن أبي قحافة. الجواب أن صواب الرأي و فساده فيما يرجع إلى مثل هذه الواقعة يستندان إلى
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 254ما قد كان غلب على الظن و لا ريب أنه ع لم يغلب على ظنه أن أحدا يستأثر عليه بالخلافة لأحوال قد كان مهدها له رسول الله ص و ما توهم إلا أنه ينتظر و يرتقب خروجه من البيت و حضوره و لعله قد كان يخطر له أنه إما أن يكون هو الخليفة أيشاور في الخلافة إلى من يفوض و ما كان يتوهم أنه يجري الأمر على ما جرى من الفلتة عند ثوران تلك الفتنة و لا يشاور هو و لا العباس و لا أحد من بني هاشم و إنما كان يكون تدبيره فاسدا لو كان يحاذر خروج الأمر عنه و يتوهم ذلك و يغلب على ظنه إن لم يبادر تحصيله بالبيعة المعجلة في الدار من وراء الأبواب و الأغلاق و إلا فاته ثم يهمل ذلك و لا يفعله و قد صرح هو بما عنده فقال و هل يطمع فيها طامع غيري ثم قال إني أكره البيعة هاهنا و أحب أن أصحر بها فبين أنه يستهجن أن يبايع سرا خلف الحجب و الجدران و يحب أن يبايع جهرة بمحضر من الناس كما قال حيث طلبوا منه بعد قتل عثمان أن يبايعهم في داره فقال لا بل في المسجد و لا يعلم و لا خطر له ما في ضمير الأيام و ما يحدث الوقت من وقوع ما لا يتوهم العقلاء و أرباب الأفكار وقوعه. و منها قولهم إنه قصر في طلب الخلافة عند بيعة أبي بكر و قد كان اجتمع له من بني هاشم و بني أمية و غيرهم من أفناء الناس من يتمكن بهم من المنازعة و طلب الخلافة فقصر عن ذلك لا جبنا لأنه كان أشجع البشر و لكن قصور تدبير و ضعف رأي و لهذا أكفرته الكاملية و أكفرت الصحابة فقالوا كفرت الصحابة لتركهم بيعته و كفر هو بترك المنازعة لهم. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 255و الجواب أما على مذهبنا فإنه لم يكن ع منصوصا عليه و إنما كان يدعيها بالأفضلية و القرابة و السابقة و الجهاد و نحو(11/216)


ذلك من الخصائص فلما وقعت بيعة أبي بكر رأى هو علي ع أن الأصلح للإسلام ترك النزاع و أنه يخاف من النزاع حدوث فتنة ل معاقد الملة و تزعزع أركانها فحضر و بايع طوعا و وجب علينا بعد مبايعته و رضاه أن نرضى بمن رضي هو ع و نطيع من أطاعه لأنه القدوة و أفضل من تركه ص بعده. و أما الإمامية فلهم عن ذلك جواب آخر معروف من قواعدهم. و منها قولهم إنه قصر في الرأي حيث دخل في الشورى لأنه جعل نفسه بدخوله فيها نظيرا لعثمان و غيره من الخمسة و قد كان الله تعالى رفعه عنهم و على من كان قبلهم فوهن بذلك قدره و طأطأ من جلالته أ لا ترى أنه يستهجن و يقبح من أبي حنيفة و الشافعي رحمهما الله أن يجعلا أنفسهما نظراء لبعض من بدأ طرفا من الفقه و يستهجن و يقبح من سيبويه و الأخفش أن يوازيا أنفسهما بمن يعلم أبوابا يسيرة من النحو. الجواب أنه ع و إن كان أفضل من أصحاب الشورى فإنه كان يظن أن ولي الأمر أحدهم بعد عمر لا يسير سيرة صالحة و أن تضطرب بعض أمور الإسلام و قد كان يثني على سيرة عمر و يحمدها فواجب عليه بمقتضى ظنه أن يدخل معهم فيما أدخله عمر فيه توقعا لأن يفضي الأمر إليه فيعمل بالكتاب و السنة و يحيي معالم رسول الله ص و ليس اعتماد ما يقتضيه الشرع مما يوجب نقصا في الرأي فلا تدبير أصح و لا أسد من تدبير الشرع.(11/217)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 256و منها قولهم إنه ما أصاب حيث أقام بالمدينة و عثمان محصور و قد كان يجب في الرأي أن يخرج عنها بحيث لا تنوط بنو أمية به دم عثمان فإنه لو كان بعيدا عن المدينة لكان من قذفهم إياه بذلك أبعد و عنه أنزه. و الجواب أنه لم يكن يخطر لهع براءته من دم عثمان أن أهل الفساد من بني أمية يرمونه بأمره و الغيب لا يعلمه إلا الله و كان يرى مقامه بالمدينة أدعى إلى انتصار عثمان على المحاصرين له فقد حضر هو بنفسه مرارا و طرد الناس عنه و أنفذ إليه ولديه و ابن أخيه عبد الله و لو لا حضور علي ع بالمدينة لقتل عثمان قبل أن يقتل بمدة و ما تراخي أمره و تأخر قتله إلا لمراقبة الناس له حيث شاهدوه ينتصر له و يحامي عنه. و منها قولهم كان يجب في مقتضى الرأي حيث قتل عثمان أن يغلق بابه و يمنع الناس من الدخول إليه فإن العرب كانت تضطرب اضطرابة ثم تئول إليه لأنه تعين للأمر بحكم الحال الحاضرة فلم يفعل و فتح بابه و ترشح للأمر و بسط له يده فلذلك انتقضت عليه العرب من أقطارها. و الجواب أنه ع كان يرى أن القيام بالأمر يومئذ فرض عليه لا يجوز له الإخلال به لعدم من يصلح في ظنه للخلافة فما كان يجوز له أن يغلق بابه و يمتنع و ما الذي كان يومئذ أن يبايع الناس طلحة أو الزبير أو غيرهما ممن لا يراه أهلا للأمر فقد كان عبد الله بن الزبير يومئذ يزعم أن عثمان عهد إليه بالخلافة و هو محصور و كان مروان يطمع أن ينحاز إلى طرف من الأطراف فيخطب لنفسه بالخلافة و له من بني أمية شيعة و أصحاب بشبهة أنه ابن عم عثمان و أنه كان يدبر أمر الخلافة على عهده و كان معاوية يرجو أن ينال الخلافة لأنه من بني أمية و ابن عم عثمان و أمير الشام عشرين سنة و قد كان قوم من بني أمية يتعصبون لأولاد عثمان المقتول و يرومون إعادة الخلافة فيهم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 257و ما كان يسوغ لعلي ع في الدين إذا طلبه المسلمون للخلافة أن يمتنع عنها و(11/218)

112 / 151
ع
En
A+
A-