شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 230بالدهاء و النكراء لا نقول ما كان أنكر أبا بكر بن أبي قحافة و ما كان أنكر عمر بن الخطاب و لا يقول أحد عنده شي ء من الخير كان رسول الله ص أدهى العرب و العجم و أنكر قريش و أمكر كنانة لأن هذه الكلمة إنما وضعت في مديح أصحاب الأو من يتعمق في الرأي في توكيد الدنيا و زبرجها و تشديد أركانها فأما أصحاب الآخرة الذين يرون الناس لا يصلحون على تدبير البشر و إنما يصلحون على تدبير خالق البشر فإن هؤلاء لا يمدحون بالدهاء و النكراء و لم يمنعوا هذا إلا ليعطوا أفضل منه أ لا ترى أن المغيرة بن شعبة و كان أحد الدهاة حين رد على عمرو بن العاص قوله في عمر بن الخطاب و عمرو بن العاص أحد الدهاة أيضا أ أنت كنت تفعل أو توهم عمر شيئا فيلقنه عنك ما رأيت عمر مستخليا بأحد إلا رحمته كائنا من كان ذلك الرجل كان عمر و الله أعقل من أن يخدع و أفضل من أن يخدع و لم يذكره بالدهاء و النكراء هذا مع عجبه بإضافة الناس ذلك إليه و لكنه قد علم أنه إذا أطلق على الأئمة الألفاظ التي لا تصلح في أهل الطهارة كان ذلك غير مقبول منه فهذا هذا. و كذلك كان حكم قول معاوية للجميع أخرجوا إلينا قتلة عثمان و نحن لكم سلم فاجهد كل جهدك و استعن بمن شايعك إلى أن تتخلص إلى صواب رأي في ذلك الوقت أضله علي حتى تعلم أن معاوية خادع و أن عليا ع كان المخدوع. فإن قلت فقد بلغ ما أراد و نال ما أحب فهل رأيت كتابنا وضع إلا على أن عليا كان قد امتحن في أصحابه و في دهره بما لم يمتحن إمام قبله من الاختلاف و المنازعة و التشاح من الرئاسة و التسرع و العجلة و هل أتي ع إلا من هذا المكان أ و لسنا قد فرغنا من هذا الأمر و قد علمنا أن ثلاثة نفر تواطئوا على قتل ثلاثة نفر فانفرد ابن ملجم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 231بالتماس ذلك من علي ع و انفرد البرك الصريمي بالتماس ذلك من رو بن العاص و انفرد الآخر و هو عمرو بن بكر التميمي بالتماس ذلك من(11/194)
معاوية فكان من الاتفاق أو من الامتحان أن كان علي من بينهم هو المقتول. و في قياس مذهبكم أن تزعموا أن سلامة عمرو و معاوية إنما كانت بحزم منهما و أن قتل علي ع إنما هو من تضييع منه فإذ قد تبين لكم أنه من الابتلاء و الامتحان في نفسه بخلاف الذي قد شاهدتموه في عدوه فكل شي ء سوى ذلك فإنما هو تبع للنفس. هذا آخر كلام أبي عثمان في هذا الموضع و من تأمله بعين الإنصاف و لم يتبع الهوى علم صحة جميع ما ذكره و أن أمير المؤمنين دفع من اختلاف أصحابه و سوء طاعته له و لزومه سنن الشريعة و منهج العدل و خروج معاوية و عمرو بن العاص عن قاعدة الشرع في استمالة الناس إليهم بالرغبة و الرهبة إلى ما لم يدفع إليه غيره فلو لا أنه ع كان عارفا بوجوه السياسة و تدبير أمر السلطان و الخلافة حاذقا في ذلك لم يجتمع عليه إلا القليل من الناس و هم أهل الآخرة خاصة الذين لا ميل لهم إلى الدنيا فلما وجدناه دبر الأمر حين وليه و اجتمع عليه من العساكر و الأتباع ما يتجاوز العد و الحصر و قاتل بهم أعداءه الذين حالهم حالهم فظفر في أكثر حروبه و وقف الأمر بينه و بين معاوية على سواء و كان هو الأظهر و الأقرب إلى الانتصار علمنا أنه من معرفة تدبير الدول و السلطان بمكان مكين(11/195)
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 232ذكر أقوال من طعن في سياسة علي و الرد عليهاو قد تعلق من طعن في سياسته بأمور منها قولهم لو كان حين بويع له بالخلافة في المدينة أقر معاوية على الشام إلى أن يستقر الأمر له و يتوطد و يبايعه معاوية و أهل الشام ثم يعزله بعد ذلك لكان قد كفي ما جرى بينهما من الحرب. و الجواب أن قرائن الأحوال حينئذ قد كان علم أمير المؤمنين ع منها أن معاوية لا يبايع له و إن أقره على ولاية الشام بل كان إقراره له على إمرة الشام أقوى لحال معاوية و آكد في الامتناع من البيعة لأنه لا يخلو صاحب السؤال إما أن يقول كان ينبغي أن يطالبه بالبيعة و يقرن إلى ذلك تقليده بالشام فيكون الأمران معا أو يتقدم منه ع المطالبة بالبيعة أو يتقدم منه إقراره على الشام و تتأخر المطالبة بالبيعة إلى وقت ثان فإن كان الأول فمن الممكن أن يقرأ معاوية على أهل الشام تقليده بالإمرة فيؤكد حاله عندهم و يقرر في أنفسهم لو لا أنه أهل لذلك لما اعتمده علي ع معه ثم يماطله بالبيعة و يحاجزه عنها و إن كان الثاني فهو الذي فعله أمير المؤمنين ع و إن كان الثالث فهو كالقسم الأول بل هو آكد فيما يريده معاوية من الخلاف و العصيان و كيف يتوهم من يعرف السير أن معاوية كان يبايع له لو أقره على الشام و بينه و بينه ما لا تبرك الإبل عليه من الترات القديمة و الأحقاد و هو الذي قتل حنظلة أخاه و الوليد خاله و عتبة جده في مقام واحد ثم ما جرى بينهما في أيام عثمان حتى أغلظ كل واحد منهما لصاحبه و حتى تهدده معاوية و قال له إني شاخص إلى الشام و تارك عندك هذا الشيخ يعني عثمان و الله لئن شرح نهج البلاغة : 10 ص : 233انحصت منه شعرة واحدة لأضربنك بمائة ألف سيف و قد ذكرنا شيئا مما جرى بينهما فيما تقدم. و أما قول ابن عباس له ع وله شهرا و اعزله دهرا و ما أشار به المغيرة بن شعبة فإنهما ما توهماه و ما غلب على ظنونهما و خطر بقلوبهما و علي ع كان أعلم بحاله(11/196)
مع معاوية و أنها لا تقبل العلاج و التدبير و كيف يخطر ببال عارف بحال معاوية و نكره و دهائه و ما كان في نفسه من علي ع من قتل عثمان و من قبل قتل عثمان أنه يقبل إقرار علي ع له على الشام و ينخدع بذلك و يبايع و يعطي صفقة يمينه إن معاوية لأدهى من أن يكاد بذلك و إن عليا ع لأعرف بمعاوية ممن ظن أنه لو استماله بإقراره لبايع له و لم يكن عند علي ع دواء لهذا المرض إلا السيف لأن الحال إليه كانت تئول لا محالة فجعل الآخر أولا. و أنا أذكر في هذا الموضع خبرا رواه الزبير بن بكار في الموفقيات ليعلم من يقف عليه أن معاوية لم يكن لينجذب إلى طاعة علي ع أبدا و لا يعطيه البيعة و أن مضادته له و مباينته إياه كمضادة السواد للبياض لا يجتمعان أبدا و كمباينة السلب للإيجاب فإنها مباينة لا يمكن زوالها أصلا قال الزبير حدثني محمد بن زكريا بن بسطام قال حدثني محمد بن يعقوب بن أبي الليث قال حدثني أحمد بن محمد بن الفضل بن يحيى المكي عن أبيه عن جده الفضل بن يحيى عن الحسن بن عبد الصمد عن قيس بن عرفجة قال لما حصر عثمان أبرد مروان بن الحكم بخبره بريدين أحدهما إلى الشام و الآخر إلى اليمن و بها يومئذ يعلى بن منية و مع كل واحد منهما كتاب فيه أن بني أمية في الناس كالشامة شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 234الحمراء و أن الناس قد قعدوا لهم برأس كل محجة و على كل طريق فجعلوهم مرمى العر و العضيهة و مقذف القشب و الأفيكة و قد علمتم أنها لم تأت عثمان إلا كرها تجبذ من ورائها و إني خائف إن قتل أن تكون من بني أمية بمناط الثريا إنم نصر كرصيف الأساس المحكم و لئن وهى عمود البيت لتتداعين جدرانه و الذي عيب عليه إطعامكما الشام و اليمن و لا شك أنكما تابعاه إن لم تحذرا و أما أنا فمساعف كل مستشير و معين كل مستصرخ و مجيب كل داع أتوقع الفرصة فأثب وثبة الفهد أبصر غفلة مقتنصة و لو لا مخافة عطب البريد و ضياع الكتب لشرحت لكما من الأمر ما لا تفزعان معه(11/197)
إلى أن يحدث الأمر فجدا في طلب ما أنتما ولياه و على ذلك فليكن العمل إن شاء الله و كتب في آخره
و ما بلغت عثمان حتى تخطمت رجال و دانت للصغار رجال لقد رجعت عودا على بدء كونها و إن لم تجدا فالمصير زوال سيبدي مكنون الضمائر قولهم و يظهر منهم بعد ذاك فعال فإن تقعدا لا تطلبا ما ورثتما فليس لنا طول الحياة مقال نعيش بدار الذل في كل بلدة و تظهر منا كأبة ول
فلما ورد الكتاب على معاوية أذن في الناس الصلاة جامعة ثم خطبهم خطبة المستنصر المستصرخ. و في أثناء ذلك ورد عليه قبل أن يكتب الجواب كتاب مروان بقتل عثمان و كانت نسخته وهب الله لك أبا عبد الرحمن قوة العزم و صلاح النية و من عليك بمعرفة الحق و اتباعه فإني كتبت إليك هذا الكتاب بعد قتل عثمان أمير المؤمنين شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 235و أي قتلة قتل نحر كما ينحر البعير الكبير عند اليأس من أن ينوء بالحمل بعد أن نقبت صفحته بطي المراحل و سير الهجير و إني معلمك من خبره غير مقصر و لا مطيل إن القوم استطالوا مدته و استقلوا ناصره و استضعفوه في بدنه و أملوا بقتله ب أيديهم فيما كان قبضه عنهم و اعصوصبوا عليه فظل محاصرا قد منع من صلاة الجماعة و رد المظالم و النظر في أمور الرعية حتى كأنه هو فاعل لما فعلوه فلما دام ذلك أشرف عليهم فخوفهم الله و ناشدهم و ذكرهم مواعيد رسول الله ص له و قوله فيه فلم يجحدوا فضله و لم ينكروه ثم رموه بأباطيل اختلقوها ليجعلوا ذلك ذريعة إلى قتله فوعدهم التوبة مما كرهوا و وعدهم الرجعة إلى ما أحبوا فلم يقبلوا ذلك و نهبوا داره و انتهكوا حرمته و وثبوا عليه فسفكوا دمه و انقشعوا عنه انقشاع سحابة قد أفرغت ماءها منكفئين قبل ابن أبي طالب انكفاء الجراد إذا أبصر المرعى فأخلق ببني أمية أن يكونوا من هذا الأمر بمجرى العيوق إن لم يثأره ثائر فإن شئت أبا عبد الرحمن أن تكونه فكنه و السلام. فلما ورد الكتاب على معاوية أمر بجمع الناس ثم خطبهم خطبة(11/198)