شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 225محرابه و قتل بنوه بعده و سبي حريمه و نساؤه و تتبع أهله و بنو عمه بالقتل و الطرد و التشريد و السجون مع فضلهم و زهدهم و عبادتهم و سخائهم و انتفاع الخلق بهم فهل يمكن ألا يتعصب البشر كلهم مع هذا الشخص و هل تستطيع القلوب ألا تحبو تهواه و تذوب فيه و تفنى في عشقه انتصارا له و حمية من أجله و أنفة مما ناله و امتعاضا مما جرى عليه و هذا أمر مركوز في الطبائع و مخلوق في الغرائز كما يشاهد الناس على الجرف إنسانا قد وقع في الماء العميق و هو لا يحسن السباحة فإنهم بالطبع البشري يرقون عليه رقة شديدة و قد يلقي قوم منهم أنفسهم في الماء نحوه يطلبون تخليصه لا يتوقعون على ذلك مجازاة منه بمال أو شكر و لا ثوابا في الآخرة فقد يكون منهم من لا يعتقد أمر الآخرة و لكنها رقة بشرية و كان الواحد منهم يتخيل في نفسه أنه ذلك الغريق فكما يطلب خلاص نفسه لو كان هذا الغريق كذلك يطلب تخليص من هو في تلك الحال الصعبة للمشاركة الجنسية و كذلك لو أن ملكا ظلم أهل بلد من بلاده ظلما عنيفا لكان أهل ذلك البلد يتعصب بعضهم لبعض في الانتصار من ذلك الملك و الاستعداء عليه فلو كان من جملتهم رجل عظيم القدر جليل الشأن قد ظلمه الملك أكثر من ظلمه إياهم و أخذ أمواله و ضياعه و قتل أولاده و أهله كان لياذهم به و انضواؤهم إليه و اجتماعهم و التفافهم به أعظم و أعظم لأن الطبيعة البشرية تدعو إلى ذلك على سبيل الإيجاب الاضطراري و لا يستطيع الإنسان منه امتناعا. و هذا محصول قول النقيب أبي جعفر رحمه الله قد حكيته و الألفاظ لي و المعنى له لأني لا أحفظ الآن ألفاظه بعينها إلا أن هذا هو كان معنى قوله و فحواه رحمه الله و كان لا يعتقد في الصحابة ما يعتقده أكثر الإمامية فيهم و يسفه رأي من يذهب فيهم إلى النفاق و التكفير و كان يقول حكمهم حكم مسلم مؤمن عصى في بعض الأفعال و خالف الأمر فحكمه إلى الله إن شاء آخذه و إن شاء غفر له.(11/189)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 226قلت له مرة أ فتقول أنهما من أهل الجنة فقال إي و الله أعتقد ذلك لأنهما إما أن يعفو الله تعالى عنهما ابتداء أو بشفاعة الرسول ص أو بشفاعة علي ع أو يؤاخذهما بعقابو عتاب ثم ينقلهما إلى الجنة لا أستريب في ذلك أصلا و لا أشك في إيمانهما برسول الله ص و صحة عقيدتهما. فقلت له فعثمان قال و كذلك عثمان ثم قال رحم الله عثمان و هل كان إلا واحدا منا و غصنا من شجرة عبد مناف و لكن أهله كدروه علينا و أوقعوا العداوة و البغضاء بينه و بيننا. قلت له فيلزمك على ما تراه في أمر هؤلاء أن تجوز دخول معاوية الجنة لأنه لم تكن منه إلا المخالفة و ترك امتثال أمر النبوي. فقال كلا إن معاوية من أهل النار لا لمخالفته عليا و لا بمحاربته إياه و لكن عقيدته لم تكن صحيحة و لا إيمانه حقا و كان من رءوس المنافقين هو و أبوه و لم يسلم قلبه قط و إنما أسلم لسانه و كان يذكر من حديث معاوية و من فلتات قوله و ما حفظ عنه من كلام يقتضي فساد العقيدة شيئا كثيرا ليس هذا موضعه فأذكره. و قال لي مرة حاش لله أن يثبت معاوية في جريدة الشيخين الفاضلين أبي بكر و عمر و الله ما هما إلا كالذهب الإبريز و لا معاوية إلا كالدرهم الزائف أو قال كالدرهم القسي ثم قال لي فما يقول أصحابكم فيهما قلت أما الذي استقر عليه رأي المعتزلة بعد اختلاف كثير بين قدمائهم في التفضيل و غيره أن عليا ع أفضل الجماعة و أنهم تركوا الأفضل لمصلحة رأوها و أنه لم يكن هناك نص يقطع العذر و إنما كانت إشارة و إيماء لا يتضمن شي ء منها صريح النص و إن عليا ع نازع ثم بايع شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 227و جمح ثم استجاب و لو أقام على الامتناع لم نقل بصحة البيعة و لا بلزومها و لو جرد السيف كما جرده في آخر الأمر لقلنا بفسق كل من خالفه على الإطلاق كائنا من كان و لكنه رضي بالبيعة أخيرا و دخل في الطاعة. و بالجملة أصحابنا يقولون الأمر كان له و كان هو المستحق و(11/190)


المتعين فإن شاء أخذه لنفسه و إن شاء ولاه غيره فلما رأيناه قد وافق على ولاية غيره اتبعناه و رضينا بما رضي فقال قد بقي بيني و بينكم قليل أنا أذهب إلى النص و أنتم لا تذهبون إليه. فقلت له إنه لم يثبت النص عندنا بطريق يوجب العلم و ما تذكرونه أنتم صريحا فأنتم تنفردون بنقله و ما عدا ذلك من الأخبار التي نشارككم فيها فلها تأويلات معلومة. فقال لي و هو ضجر يا فلان لو فتحنا باب التأويلات لجاز أن يتناول قولنا لا إله إلا الله محمد رسول الله دعني من التأويلات الباردة التي تعلم القلوب و النفوس أنها غير مرادة و أن المتكلمين تكلفوها و تعسفوها فإنما أنا و أنت في الدار و لا ثالث لنا فيستحيي أحدنا من صاحبه أو يخافه. فلما بلغنا إلى هذا الموضع دخل قوم ممن كان يخشاه فتركنا ذلك الأسلوب من الحديث و خضنا في غيره
سياسة علي و معاوية و إيراد كلام للجاحظ في ذلك(11/191)


فأما القول في سياسة معاوية و أن شنأة علي ع و مبغضيه زعموا أنها خير من سياسة أمير المؤمنين فيكفينا في الكلام على ذلك ما قاله شيخنا أبو عثمان و نحن نحكيه بألفاظه. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 228قال أبو عثمان و ربما رأيت بعض من يظن بنفسه العقل و التحصيل و الم و التمييز و هو من العامة و يظن أنه من الخاصة يزعم أن معاوية كان أبعد غورا و أصح فكرا و أجود روية و أبعد غاية و أدق مسلكا و ليس الأمر كذلك و سأرمي إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه و المكان الذي دخل عليه الخطأ من قبله. كان علي ع لا يستعمل في حربه إلا ما وافق الكتاب و السنة و كان معاوية يستعمل خلاف الكتاب و السنة كما يستعمل الكتاب و السنة و يستعمل جميع المكايد حلالها و حرامها و يسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى و خاقان إذا لاقى رتبيل و علي ع يقول لا تبدءوهم بالقتال حتى يبدءوكم و لا تتبعوا مدبرا و لا تجهزوا على جريح و لا تفتحوا بابا مغلقا هذه سيرته في ذي الكلاع و في أبي الأعور السلمي و في عمرو بن العاص و حبيب بن مسلمة و في جميع الرؤساء كسيرته في الحاشية و الحشو و الأتباع و السفلة و أصحاب الحروب إن قدروا على البيات بيتوا و إن قدروا على رضخ الجميع بالجندل و هم نيام فعلوا و إن أمكن ذلك في طرفة عين لم يؤخروه إلى ساعة و إن كان الحرق أعجل من الغرق لم يقتصروا على الغرق و لم يؤخروا الحرق إلى وقت الغرق و إن أمكن الهدم لم يتكلفوا الحصار و لم يدعوا أن ينصبوا المجانيق و العرادات و النقب و التسريب و الدبابات و الكمين و لم يدعوا دس السموم و لا التضريب بين الناس بالكذب و طرح شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 229الكتب في عساكرهم بالسعايات و توهيم الأمور و إيحاش بعض من بعض و قتلهم بكل آلة و حيلة كيف وقع القتل و كيف دارت بهم الحال فمن اقتصر حفظك الله من التدبير على ما في الكتاب السنة كان قد منع نفسه الطويل العريض من التدبير و ما لا يتناهى من(11/192)


المكايد و الكذب حفظك الله أكثر من الصدق و الحرام أكثر عددا من الحلال و لو سمى إنسان إنسانا باسمه لكان قد صدق و ليس له اسم غيره و لو قال هو شيطان أو كلب أو حمار أو شاة أو بعير أو كل ما خطر على البال لكان كاذبا في ذلك و كذلك الإيمان و الكفر و كذلك الطاعة و المعصية و كذلك الحق و الباطل و كذلك السقم و الصحة و كذلك الخطأ و الصواب فعلي ع كان ملجما بالورع عن جميع القول إلا ما هو لله عز و جل رضا و ممنوع اليدين من كل بطش إلا ما هو لله رضا و لا يرى الرضا إلا فيما يرضاه الله و يحبه و لا يرى الرضا إلا فيما دل عليه الكتاب و السنة دون ما يعول عليه أصحاب الدهاء و النكراء و المكايد و الآراء فلما أبصرت العوام كثرة نوادر معاوية في المكايد و كثرة غرائبه في الخداع و ما اتفق له و تهيأ على يده و لم يرو ذلك من علي ع ظنوا بقصر عقولهم و قلة علومهم أن ذاك من رجحان عند معاوية و نقصان عند علي ع فانظر بعد هذا كله هل يعد له من الخدع إلا رفع المصاحف ثم انظر هل خدع بها إلا من عصى رأي علي ع و خالف أمره. فإن زعمت أنه قال ما أراد من الاختلاف فقد صدقت و ليس في هذا اختلفنا و لا عن غرارة أصحاب علي ع و عجلتهم و تسرعهم و تنازعهم دفعنا و إنما كان قولنا في التميز بينهما في الدهاء و النكراء و صحة العقل و الرأي و البزلاء على أنا لا نصف الصالحين(11/193)

107 / 151
ع
En
A+
A-