نبوة خالد بن سنان العبسي حيث ظهر و دعا إلى الدين و كان الناس يعجبون من ذلك و يتذاكرونه كما يعجبون و يتذاكرون أخبار من نبغ من الرؤساء و الملوك و الدعاة الذين انقرض أمرهم و بقيت أخبارهم. و كان يقول من تأمل حال الرجلين وجدهما متشابهتين في جميع أمورهما أو في أكثرها و ذلك لأن حرب رسول الله ص مع المشركين كانت سجالا انتصر يوم بدر و انتصر المشركون عليه يوم أحد و كان يوم الخندق كفافا خرج هو و هم سواء لا عليه و لا له لأنهم قتلوا رئيس الأوس و هو سعد بن معاذ و قتل منهم فارس قريش و هو عمرو بن عبد ود و انصرفوا عنه بغير حرب بعد تلك الساعة التي كانت ثم حارب بعدها قريشا يوم الفتح فكان الظفر له. و هكذا كانت حروب علي ع انتصر يوم الجمل و خرج الأمر بينه و بين(11/184)
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 221معاوية على سواء قتل من أصحابه رؤساء و من أصحاب معاوية رؤساء و انصرف كل واحد من الفريقين عن صاحبه بعد الحرب على مكانه ثم حارب بعد صفين أهل النهروان فكان الظفر له. قال و من العجب أن أول حروب رسول الله ص كانت بدرا و كان هو المور فيها و أول حروب علي ع الجمل و كان هو المنصور فيها ثم كان من صحيفة الصلح و الحكومة يوم صفين نظير ما كان من صحيفة الصلح و الهدنة يوم الحديبية ثم دعا معاوية في آخر أيام علي ع إلى نفسه و تسمى بالخلافة كما أن مسيلمة و الأسود العنسي دعوا إلى أنفسهما في آخر أيام رسول الله ص و تسميا بالنبوة و اشتد على علي ع ذلك كما اشتد على رسول الله ص أمر الأسود و مسيلمة و أبطل الله أمرهما بعد وفاة النبي ص و كذلك أبطل أمر معاوية و بني أمية بعد وفاة علي ع و لم يحارب رسول الله ص أحد من العرب إلا قريش ما عدا يوم حنين و لم يحارب عليا ع من العرب أحد إلا قريش ما عدا يوم النهروان و مات علي ع شهيدا بالسيف و مات رسول الله ص شهيدا بالسم و هذا لم يتزوج على خديجة أم أولاده حتى ماتت و هذا لم يتزوج على فاطمة أم أشرف أولاده حتى ماتت و مات رسول الله ص عن ثلاث و ستين سنة و مات علي ع عن مثلها. و كان يقول انظروا إلى أخلاقهما و خصائصهما هذا شجاع و هذا شجاع و هذا فصيح و هذا فصيح و هذا سخي جواد و هذا سخي جواد و هذا عالم بالشرائع و الأمور الإلهية و هذا عالم بالفقه و الشريعة و الأمور الإلهية الدقيقة الغامضة و هذا زاهد في الدنيا غير نهم و لا مستكثر منها و هذا زاهد في الدنيا تارك لها غير متمتع بلذاتها و هذا مذيب نفسه في الصلاة و العبادة و هذا مثله و هذا غير محبب إليه شي ء من الأمور العاجلة شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 222إلا النساء و هذا مثله و هذا ابن عبد المطلب بن هاشم و هذا في قعدده و أبواهما أخوان لأبأم دون غيرهما من بني عبد المطلب و ربي محمد ص في حجر والد هذا و هذا(11/185)
أبو طالب فكان جاريا عنده مجرى أحد أولاده ثم لما شب ص و كبر استخلصه من بني أبي طالب و هو غلام فرباه في حجره مكافأة لصنيع أبي طالب به فامتزج الخلقان و تماثلت السجيتان و إذا كان القرين مقتديا بالقرين فما ظنك بالتربية و التثقيف الدهر الطويل فواجب أن تكون أخلاق محمد ص كأخلاق أبي طالب و تكون أخلاق علي ع كأخلاق أبي طالب أبيه و محمد ع مربيه و أن يكون الكل شيمة واحدة و سوسا واحدا و طينة مشتركة و نفسا غير منقسمة و لا متجزئة و ألا يكون بين بعض هؤلاء و بعض فرق و لا فضل لو لا أن الله تعالى اختص محمدا ص برسالته و اصطفاه لوحيه لما يعلمه من مصالح البرية في ذلك و من أن اللطف به أكمل و النفع بمكانه أتم و أعم فامتاز رسول الله ص بذلك عمن سواه و بقي ما عدا الرسالة على أمر الاتحاد و إلى هذا المعنى
أشار ص بقوله أخصمك بالنبوة فلا نبوة بعدي و تخصم الناس بسبع
و قال له أيضا أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
فأبان نفسه منه بالنبوة و أثبت له ما عداها من جميع الفضائل و الخصائص مشتركا بينهما. و كان النقيب أبو جعفر رحمه الله غزير العلم صحيح العقل منصفا في الجدال غير متعصب للمذهب و إن كان علويا و كان يعترف بفضائل الصحابة و يثني على الشيخين. و يقول إنهما مهدا دين الإسلام و أرسيا قواعده و لقد كان شديد الاضطراب في حياة رسول الله ص و إنما مهداه بما تيسر للعرب من الفتوح و الغنائم في دولتهما. و كان يقول في عثمان إن الدولة في أيامه كانت على إقبالها و علو جدها بل كانت الفتوح في أيامه أكثر و الغنائم أعظم لو لا أنه لم يراع ناموس الشيخين و لم يستطع أن يسلك شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 223مسلكهما و كان مضعفا في أصل القاعدة مغلوبا عليه و كثير الحب لأهله و أتيح له من مروان وزير سوء أفسد القلوب عليه و حمل الناس على خلعه و قتلهكلام أبي جعفر الحسني في الأسباب التي أوجبت محبة الناس لعلي(11/186)
و كان أبو جعفر رحمه الله لا يجحد الفاضل فضله و الحديث شجون. قلت له مرة ما سبب حب الناس لعلي بن أبي طالب ع و عشقهم له و تهالكهم في هواه و دعني في الجواب من حديث الشجاعة و العلم و الفصاحة و غير ذلك من الخصائص التي رزقه الله سبحانه الكثير الطيب منها. فضحك و قال لي كم تجمع جراميزك علي. ثم قال هاهنا مقدمة ينبغي أن تعلم و هي أن أكثر الناس موتورون من الدنيا أما المستحقون فلا ريب في أن أكثرهم محرومون نحو عالم يرى أنه لا حظ له في الدنيا و يرى جاهلا غيره مرزوقا و موسعا عليه و شجاع قد أبلى في الحرب و انتفع بموضعه ليس له عطاء يكفيه و يقوم بضروراته و يرى غيره و هو جبان فشل يفرق من ظله مالكا لقطر عظيم من الدنيا و قطعة وافرة من المال و الرزق و عاقل سديد التدبير صحيح العقل قد قدر عليه رزقه و هو يرى غيره أحمق مائقا تدر عليه الخيرات و تتحلب عليه أخلاف الرزق و ذي دين قويم و عبادة حسنة و إخلاص و توحيد و هو محروم ضيق الرزق و يرى غيره يهوديا أو نصرانيا أو زنديقا كثير المال حسن الحال حتى إن هذه الطبقات المستحقة يحتاجون في أكثر الوقت إلى الطبقات التي لا استحقاق شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 224لها و تدعوهم الضرورة إلى الذل لهم و الخض بين أيديهم إما لدفع ضرر أو لاستجلاب نفع و دون هذه الطبقات من ذوي الاستحقاق أيضا ما نشاهده عيانا من نجار حاذق أو بناء عالم أو نقاش بارع أو مصور لطيف على غاية ما يكون من ضيق رزقهم و قعود الوقت بهم و قلة الحيلة لهم و يرى غيرهم ممن ليس يجري مجراهم و لا يلحق طبقتهم مرزوقا مرغوبا فيه كثير المكسب طيب العيش واسع الرزق فهذا حال ذوي الاستحقاق و الاستعداد و أما الذين ليسوا من أهل الفضائل كحشو العامة فإنهم أيضا لا يخلون من الحقد على الدنيا و الذم لها و الحنق و الغيظ منها لما يلحقهم من حسد أمثالهم و جيرانهم و لا يرى أحد منهم قانعا بعيشه و لا راضيا بحاله بل يستزيد و يطلب حالا فوق(11/187)
حاله. قال فإذا عرفت هذه المقدمة فمعلوم أن عليا ع كان مستحقا محروما بل هو أمير المستحقين المحرومين و سيدهم و كبيرهم و معلوم أن الذين ينالهم الضيم و تلحقهم المذلة و الهضيمة يتعصب بعضهم لبعض و يكونون إلبا و يدا واحدة على المرزوقين الذين ظفروا بالدنيا و نالوا مآربهم منها لاشتراكهم في الأمر الذي آلمهم و ساءهم و عضهم و مضهم و اشتراكهم في الأنفة و الحمية و الغضب و المنافسة لمن علا عليهم و قهرهم و بلغ من الدنيا ما لم يبلغوه فإذا كان هؤلاء أعني المحرومين متساوين في المنزلة و المرتبة و تعصب بعضهم لبعض فما ظنك بما إذا كان منهم رجل عظيم القدر جليل الخطر كامل الشرف جامع للفضائل محتو على الخصائص و المناقب و هو مع ذلك محروم محدود و قد جرعته الدنيا علاقمها و علته عللا بعد نهل من صابها و صبرها و لقي منها برحا بارحا و جهدا جهيدا و علا عليه من هو دونه و حكم فيه و في بنيه و أهله و رهطه من لم يكن ما ناله من الإمرة و السلطان في حسابه و لا دائرا في خلده و لا خاطرا بباله و لا كان أحد من الناس يرتقب ذلك له و لا يراه له ثم كان في آخر الأمر أن قتل هذا الرجل الجليل في(11/188)