يَعْمَلُونَ السورة بأجمعها. و قوله تعالى وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ. و قوله تعالى رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. و قوله تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ. و قوله تعالى سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً. و قوله تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 216فَسَيَقُولُونَ بَلْ تْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا. و قوله إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ(11/179)
لا يَعْقِلُونَ وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قال و أصحابه هم الذين نازعوا في الأنفال و طلبوها لأنفسهم حتى أنزل الله تعالى قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. و هم الذين التووا عليه في الحرب يوم بدر و كرهوا لقاء العدو حتى خيف خذلانهم و ذلك قبل أن تتراءى الفئتان و أنزل فيهم يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ. و هم الذين كانوا يتمنون لقاء العير دون لقاء العدو حتى إنهم ظفروا برجلين في الطريق فسألوهما عن العير فقالا لا علم لنا بها و إنما رأينا جيش قريش من وراء ذلك الكثيب فضربوهما و رسول الله ص قائم يصلي فلما ذاقا مس الضرب قالا بل العير أمامكم فاطلبوها فلما رفعوا الضرب عنهما قالا و الله ما رأينا العير و لا رأينا إلا الخيل و السلاح و الجيش فأعادوا الضرب عليهما مرة ثانية فقالا و هما يضربان العير أمامكم فخلوا عنا فانصرف رسول الله ص من الصلاة و قال إذا صدقاكم ضربتموهما و إذا كذباكم خليتم عنهما دعوهما فما رأيا إلا جيش أهل مكة و أنزل قوله تعالى وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 217دابِرَ الْكافِرِينَقال المفسرون الطائفتان العير ذات اللطيمة الواصلة إلى مكة من الشام صحبة أبي سفيان بن حرب و إليها كان خروج المسلمين و الأخرى الجيش ذو الشوكة و كان ع قد وعدهم بإحدى الطائفتين فكرهوا الحرب و أحبوا الغنيمة. قال و هم الذين فروا عنه ص يوم أحد و أسلموه و أصعدوا في(11/180)
الجبل و تركوه حتى شج الأعداء وجهه و كسروا ثنيته و ضربوه على بيضته حتى دخل جماجمه و وقع من فرسه إلى الأرض بين القتلى و هو يستصرخ بهم و يدعوهم فلا يجيبه أحد منهم إلا من كان جاريا مجرى نفسه و شديد الاختصاص به و ذلك قوله تعالى إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي ينادي فيسمع نداءه آخر الهاربين لا أولهم لأن أولهم أوغلوا في الفرار و بعدوا عن أن يسمعوا صوته و كان قصارى الأمر أن يبلغ صوته و استصراخه من كان على ساقة الهاربين منهم. قال و منهم الذين عصوا أمره في ذلك اليوم حيث أقامهم على الشعب في الجبل و هو الموضع الذي خاف أن تكر عليه منه خيل العدو من ورائه و هم أصحاب عبد الله بن جبير فإنهم خالفوا أمره و عصوه فيما تقدم به إليهم و رغبوا في الغنيمة ففارقوا مركزهم حتى دخل الوهن على الإسلام بطريقهم لأن خالد بن الوليد كر في عصابة من الخيل فدخل من الشعب الذي كانوا يحرسونه فما أحس المسلمون بهم إلا و قد غشوهم بالسيوف من خلفهم فكانت الهزيمة و ذلك قوله تعالى حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 218وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ. قال و هم الذين عصوا أمره في غزاة تبوك بعد أن أكد عليهم الأوامر و خذلوه و تركوه و لم يشخصوا معه فأنزل فيهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و هذه الآية(11/181)
خطاب مع المؤمنين لا مع المنافقين و فيها أوضح دليل على أن أصحابه و أولياءه المصدقين لدعوته كانوا يعصونه و يخالفون أمره و أكد عتابهم و تقريعهم و توبيخهم بقوله تعالى لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباًوَ سَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. ثم عاتب رسول الله ص على كونه أذن لهم في التخلف و إنما أذن لهم لعلمه أنهم لا يجيبونه في الخروج فرأى أن يجعل المنة له عليهم في الإذن لهم و إلا قعدوا عنه و لم تصل له المنة فقال له عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ أي هلا أمسكت عن الإذن لهم حتى يتبين لك قعود من يقعد و خروج من يخرج صادقهم من كاذبهم لأنهم كانوا قد وعدوه بالخروج معه كلهم و كان بعضهم ينوي الغدر و بعضهم يعزم على أن يخيس بذلك الوعد فلو لم يأذن لهم لعلم من يتخلف و من لا يتخلف فعرف الصادق منهم و الكاذب. شرح نهج البلاغة ج : 10 : 219ثم بين سبحانه و تعالى أن الذين يستأذنونه في التخلف خارجون من الإيمان فقال له لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. و لا حاجة إلى التطويل بذكر الآيات المفصلة فيما يناسب هذا المعنى فمن تأمل الكتاب العزيز علم حاله ص مع أصحابه كيف كانت و لم ينقله الله تعالى إلى جواره إلا و هو مع المنافقين له و المظهرين خلاف ما يضمرون من تصديقه في جهاد شديد حتى لقد كاشفوه مرارا فقال لهم يوم(11/182)
الحديبية احلقوا و انحروا مرارا فلم يحلقوا و لم ينحروا و لم يتحرك أحد منهم عند قوله و قال له بعضهم و هو يقسم الغنائم اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. و قالت الأنصار له مواجهة يوم حنين أ تأخذ ما أفاء الله علينا بسيوفنا فتدفعه إلى أقاربك من أهل مكة حتى أفضى الأمر إلى أن
قال لهم في مرض موته ائتوني بدواة و كتف أكتب لكم ما لا تضلون بعده
فعصوه و لم يأتوه بذلك و ليتهم اقتصروا على عصيانه و لم يقولوا له ما قالوا و هو يسمع. و كان أبو جعفر رحمه الله يقول من هذا ما يطول شرحه و القليل منه ينبئ عن الكثير و كان يقول إن الإسلام ما حلا عندهم و لا ثبت في قلوبهم إلا بعد موته حين فتحت عليهم الفتوح و جاءتهم الغنائم و الأموال و كثرت عليهم المكاسب و ذاقوا طعم الحياة و عرفوا لذة الدنيا و لبسوا الناعم و أكلوا الطيب و تمتعوا بنساء الروم و ملكوا خزائن كسرى و تبدلوا بذلك القشف و الشظف و العيش الخشن و أكل شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 220الضباب و القنافذ و اليرابيو لبس الصوف و الكرابيس و أكل اللوزينجات و الفالوذجات و لبس الحرير و الديباج فاستدلوا بما فتحه الله عليهم و أتاحه لهم على صحة الدعوة و صدق الرسالة و قد كان ص وعدهم بأنه سيفتح عليهم كنوز كسرى و قيصر فلما وجدوا الأمر قد وقع بموجب ما قاله عظموه و بجلوه و انقلبت تلك الشكوك و ذاك النفاق و ذلك الاستهزاء إيمانا و يقينا و إخلاصا و طاب لهم العيش و تمسكوا بالدين لأنه زادهم طريقا إلى نيل الدنيا فعظموا ناموسه و بالغوا في إجلاله و إجلال الرسول الذي جاء به ثم انقرض الأسلاف و جاء الأخلاف على عقيدة ممهدة و أمر أخذوه تقليدا من أسلافهم الذين ربوا في حجورهم ثم انقرض ذلك القرن و جاء من بعدهم كذلك و هلم جرا. قال و لو لا الفتوح و النصر و الظفر الذي منحهم الله تعالى إياه و الدولة التي ساقها إليهم لانقرض دين الإسلام بعد وفاة رسول الله ص و كان يذكر في التواريخ كما تذكر الآن(11/183)