يعني قوله رَبِّ ارْجِعُونِ. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 209 أبو هريرة سئل رسول الله ص أي الصدقة أفضل فقال أن تعطي و أنت صحيح شحيح تأمل البقاء و تخشى الفقر و لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا و لفلان كذاو قيل للشبلي ما يجب في مائتي درهم قال أما من جهة الشرع فخمسه و أما من جهة الإخلاص فالكل.
أمر رسول الله ص بعض نسائه أن تقسم شاة على الفقراء فقالت يا رسول الله لم يبق منها غير عنقها فقال ع كلها بقي غير عنقها
أخذ شاعر هذا المعنى فقال
يبكي على الذاهب من ماله و إنما يبقى الذي يذهب
السائب كان الرجل من السلف يضع الصدقة و يمثل قائما بين يدي السائل الفقير و يسأله قبولها حتى يصير هو في صورة السائل. و كان بعضهم يبسط كفه و يجعلها تحت يد الفقير لتكون يد الفقير العليا. و
عن النبي ص ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله إليه في مخلفيه
و عنه ص الصدقة تسد سبعين بابا من الشر
و عنه ص أذهبوا مذمة السائل و لو بمثل رأس الطائر من الطعام
كان النبي ص لا يكل خصلتين إلى غيره لا يوضئه أحد و لا يعطي السائل إلا بيده. بعض الصالحين الصلاة تبلغك نصف الطريق و الصوم يبلغك باب الملك و الصدقة تدخلك عليه بغير إذن. الشعبي من لم ير نفسه أحوج إلى ثواب الصدقة من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته و ضرب بها وجهه. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 210كان الحسن بن صالح إذا جاءه سائل فإن كان عنده ذهب أو فضة أو طعام أعطاه فإن لم يكن أعطاه زيتا أو سمنا أو نحوهما مما ينتفع به فإن لم يكن أعطاه كحلا أو خرج بإبرة و خاط بها ثوب السائل أو بخرقة يرقع بها ما تخرق من ثوبه. و وقف م على بابه سائل ليلا و لم يكن عنده ما يدفعه إليه فخرج إليه بقصبة في رأسها شعلة و قال خذ هذه و تبلغ بها إلى أبواب ناس لعلهم يعطونك.(11/174)
قوله ع ثم أداء الأمانة هي العقد الذي يلزم الوفاء به و أصح ما قيل في تفسير الآية أن الأمانة ثقيلة المحمل لأن حاملها معرض لخطر عظيم فهي بالغة من الثقل و صعوبة المحمل ما لو أنها عرضت على السماوات و الأرض و الجبال لامتنعت من حملها. فأما الإنسان فإنه حملها و ألزم القيام بها و ليس المراد بقولنا إنها عرضت على السماوات و الأرض أي لو عرضت عليها و هي جمادات بل المراد تعظيم شأن الأمانة كما تقول هذا الكلام لا يحمله الجبال و قوله
امتلأ الحوض و قال قطني
و قوله تعالى قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ و مذهب العرب في هذا الباب و توسعها و مجازاتها مشهور شائع شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 193211- و من كلام له عوَ اللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي وَ لَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَ يَفْجُرُ وَ لَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ وَ لَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وَ كُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ وَ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ اللَّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ وَ لَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ
الغدرة على فعلة الكثير الغدر و الفجرة و الكفرة الكثير الفجور و الكفر و كل ما كان على هذا البناء فهو للفاعل فإن سكنت العين فهو للمفعول تقول رجل ضحكة أي يضحك و ضحكة يضحك منه و سخرة يسخر و سخرة يسخر به يقول ع كل غادر فاجر و كل فاجر كافر و يروى و لكن كل غدرة فجرة و كل فجرة كفرة على فعلة للمرة الواحدة. و
قوله لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة
حديث صحيح مروي عن النبي ص. ثم أقسم ع أنه لا يستغفل بالمكيدة أي لا تجوز المكيدة علي كما تجوز على ذوي الغفلة و أنه لا يستغمز بالشديدة أي لا أهين و ألين للخطب الشديد شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 21سياسة علي و جريها على سياسة الرسول ع(11/175)
و اعلم أن قوما ممن لم يعرف حقيقة فضل أمير المؤمنين ع زعموا أن عمر كان أسوس منه و إن كان هو أعلم من عمر و صرح الرئيس أبو علي بن سينا بذلك في الشفاء في الحكمة و كان شيخنا أبو الحسين يميل إلى هذا و قد عرض به في كتاب الغرر ثم زعم أعداؤه و مباغضوه أن معاوية كان أسوس منه و أصح تدبيرا و قد سبق لنا بحث قديم في هذا الكتاب في بيان حسن سياسة أمير المؤمنين ع و صحة تدبيره و نحن نذكر هاهنا ما لم نذكره هناك مما يليق بهذا الفصل الذي نحن في شرحه. اعلم أن السائس لا يتمكن من السياسة البالغة إلا إذا كان يعمل برأيه و بما يرى فيه صلاح ملكه و تمهيد أمره و توطيد قاعدته سواء وافق الشريعة أو لم يوافقها و متى لم يعمل في السياسة و التدبير بموجب ما قلناه فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوثق حاله و أمير المؤمنين كان مقيدا بقيود الشريعة مدفوعا إلى اتباعها و رفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب و الكيد و التدبير إذا لم يكن للشرع موافقا فلم تكن قاعدته في خلافته قاعدة غيره ممن لم يلتزم بذلك و لسنا بهذا القول زارين على عمر بن الخطاب و لا ناسبين إليه ما هو منزه عنه و لكنه كان مجتهدا يعمل بالقياس و الاستحسان و المصالح المرسلة و يرى تخصيص عمومات النص بالآراء و بالاستنباط من أصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص و يكيد خصمه و يأمر أمراءه بالكيد و الحيلة و يؤدب بالدرة و السوط من شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 213يتغلب على ظنه أنه يستوجب ذلك و يصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقون به التأديب كل ذلك بقوة اجتهاده و يؤديه إليه نظره و لم يكن أمير المؤمنين ع يرى ذلك و كان يقف مع النصوص و الظواهر و لا يتعداها إلى الاجتهاد و الأقيسة و يطبق أمور الدنيا على أمور الدين و يسوق الكل مساقا واحدا و لا يضيع و لا يرفع إلا بالكتاب و النص فاختلفت طريقتاهما في الخلافة و السياسة و كان عمر مع ذلك شديد الغلظة و السياسة و كان علي ع كثير الحلم و الصفح(11/176)
و التجاوز فازدادت خلافة ذاك قوة و خلافة هذا لينا و لم يمن عمر بما مني به علي ع من فتنة عثمان التي أحوجته إلى مداراة أصحابه و جنده و مقاربتهم للاضطراب الواقع بطريق تلك الفتنة ثم تلا ذلك فتنة الجمل و فتنة صفين ثم فتنة النهروان و كل هذه الأمور مؤثرة في اضطراب أمر الوالي و انحلال معاقد ملكه و لم يتفق لعمر شي ء من ذلك فشتان بين الخلافتين فيما يعود إلى انتظام المملكة و صحة تدبير الخلافة. فإن قلت فما قولك في سياسة رسول الله ص و تدبيره أ ليس كان منتما سديدا مع أنه كان لا يعمل إلا بالنصوص و التوقيف من الوحي فهلا كان تدبير علي ع و سياسته كذلك إذا قلتم إنه كان لا يعمل إلا بالنص قلت أما سياسة رسول الله ص و تدبيره فخارج عما نحن فيه لأنه معصوم لا تتطرق الغفلة إلى أفعاله و لا واحد من هذين الرجلين بواجب العصمة عندنا و أيضا فإن كثيرا من الناس ذهبوا إلى أن الله تعالى أذن لرسول الله ص أن يحكم في الشرعيات و غيرها برأيه و قال له احكم بما تراه فإنك لا تحكم إلا بالحق و هذا مذهب يونس بن عمران و على هذا فقد سقط السؤال لأنه ص يعمل بما يراه من المصلحة و لا ينتظر الوحي. و أيضا فبتقدير فساد هذا المذهب أ ليس قد ذهب خلق كثير من علماء أصول الفقه إلى أن رسول الله ص كان يجوز له أن يجتهد في الأحكام و التدبير كما يجتهد(11/177)
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 214الواحد من العلماء و إليه ذهب القاضي أبو يوسف رحمه الله و احتج بقوله تعالى لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ. و السؤال أيضا ساقط على هذا المذهب لأن اجتهاد علي ع لا يساوي اجتهاد النبي ص و بين الاجتهادين كما بين انزلتين. و كان أبو جعفر بن أبي زيد الحسني نقيب البصرة رحمه الله إذا حدثناه في هذا يقول إنه لا فرق عند من قرأ السيرتين سيرة النبي ص و سياسة أصحابه أيام حياته و بين سيرة أمير المؤمنين ع و سياسة أصحابه أيام حياته فكما أن عليا ع لم يزل أمره مضطربا معهم بالمخالفة و العصيان و الهرب إلى أعدائه و كثرة الفتن و الحروب فكذلك كان النبي ص لم يزل ممنوا بنفاق المنافقين و أذاهم و خلاف أصحابه عليه و هرب بعضهم إلى أعدائه و كثرة الحروب و الفتن. و كان يقول أ لست ترى القرآن العزيز مملوءا بذكر المنافقين و الشكوى منهم و التألم من أذاهم له كما أن كلام علي ع مملوء بالشكوى من منافقي أصحابه و التألم من أذاهم له و التوائهم عليه و ذلك نحو قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ. و قوله إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا الآية. و قوله تعالى إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 215لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا(11/178)