ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ وَ اصْطَنَعَهُ عَلَى عَيْنِهِ وَ أَصْفَاهُ خِيَرَةَ خَلْقِهِ وَ أَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ أَذَلَّ الْأَدْيَانَ بِعِزَّتِهِ وَ وَضَعَ الْمِلَلَ بِرَفْعِهِ وَ أَهَانَ أَعْدَاءَهُ بِكَرَامَتِهِ وَ خَذَلَ مُحَادِّيهِ بِنَصْرِهِ وَ هَدَمَ أَرْكَانَ الضَّلَالَةِ بِرُكْنِهِ وَ سَقَى مَنْ عَطِشَ مِنْ حِيَاضِهِ وَ أَتْأَقَ الْحِيَاضَ بِمَوَاتِحِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ لَا انْفِصَامَ لِعُرْوَتِهِ وَ لَا فَكَّ لِحَلْقَتِهِ وَ لَا انْهِدَامَ لِأَسَاسِهِ وَ لَا زَوَالَ لِدَعَائِمِهِ وَ لَا انْقِلَاعَ لِشَجَرَتِهِ وَ لَا انْقِطَاعَ لِمُدَّتِهِ وَ لَا عَفَاءَ لِشَرَائِعِهِ وَ لَا جَذَّ لِفُرُوعِهِ وَ لَا ضَنْكَ لِطُرُقِهِ وَ لَا وُعُوثَةَ لِسُهُولَتِهِ وَ لَا سَوَادَ لِوَضَحِهِ وَ لَا عِوَجَ لِانْتِصَابِهِ وَ لَا عَصَلَ فِي عُودِهِ وَ لَا وَعَثَ لِفَجِّهِ وَ لَا انْطِفَاءَ لِمَصَابِيحِهِ وَ لَا مَرَارَةَ لِحَلَاوَتِهِ فَهُوَ دَعَائِمُ أَسَاخَ فِي الْحَقِّ أَسْنَاخَهَا وَ ثَبَّتَ لَهَا آسَاسَهَا وَ يَنَابِيعُ غَزُرَتْ عُيُونُهَا وَ مَصَابِيحُ شَبَّتْ نِيرَانُهَا وَ مَنَارٌ اقْتَدَى بِهَا سُفَّارُهَا وَ أَعْلَامٌ قُصِدَ بِهَا فِجَاجُهَا وَ مَنَاهِلُ رَوِيَ بِهَا وُرَّادُهَا. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 192جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مُنْتَهَى رِضْوَانِهِ وَ ذِرْوَةَ دَعَائِمِهِ وَ سَنَامَ طَاعَتِهِ فَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَثِيقُ الْأَرْكَانِ رَفِيعُ الْبُنْيَانِ مُنِيرُ الْبُرْهَانِ مُضِي ءُ النِّيرَانِ عَزِيزُ السُّلْطَانِ مُشْرِفُ الْمَنَارِ مُعْوِذُ الْمَثَارِ فَشَرِّفُوهُ وَ اتَّبِعُوهُ وَ أَدُّوا إِلَيْهِ حَقَّهُ وَ ضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ اصطنعه على عينه كلمة تقال لما يشتد الاهتمام به تقول للصانع اصنع لي كذا على عيني(11/159)


أي اصنعه صنعة كاملة كالصنعة التي تصنعها و أنا حاضر أشاهدها بعيني قال تعالى وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي. و أصفاه خيرة خلقه أي آثر به خيرة خلقه و هم المسلمون و ياء خيرة مفتوحة. قال و أقام الله دعائم الإسلام على حب الله و طاعته. و المحاد المخالف قال تعالى مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ أي من يعاد الله كأنه يكون في حد و جهة و ذلك الإنسان في حد آخر و جهة أخرى و كذلك المشاق يكون في شق و الآخر في شق آخر. و أتأق الحياض ملأها و تئق السقاء نفسه يتأق تأقا و كذلك الرجل إذا امتلأ غضبا. قوله بمواتحه و هي الدلاء يمتح بها أي يسقى بها. و الانفصام الانكسار و العفاء الدروس. و الجذ القطع و يروى بالدال المهملة و هو القطع أيضا. و الضنك الضيق. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 193و الوعوثة كثرة في السهولة توجب صعوبة مشي لأن الأقدام تعيث في الأرض. و الوضح البياض. و العوج بفتح العين فيما ينتصب كالنخلة و الرمح و العوج بكسرها فيما لا ينتصب كالأرض و الرأي و الدين. و العصل الالتواء و الاعوجاج ناب أعصل و شجرة عصلة و سهام عصل. و الفج الطريق الواسع بين الجبلين يقول لا وعث فيه أي ليس طريق الإسلام بوعث و قد ذكرنا أن الوعوثة ما هي. قوله فهو دعائم أساخ في الحق أسناخها الأسناخ جمع سنخ و هو الأصل و أساخها في الأرض أدخلها فيها و ساخت قوائم فرسه في الأرض تسوخ و تسيخ دخلت و غابت. و الآساس بالمد جمع أسس مثل سبب و أسباب و الأسس و الأس و الأساس واحد و هو أصل البناء. و غزرت عيونها بضم الزاي كثرت و شبت نيرانها بضم الشين أوقدت و المنار الأعلام في الفلاة. قوله قصد بها فجاجها أي قصد بنصب تلك الأعلام اهتداء المسافرين في تلك الفجاج فأضاف القصد إلى الفجاج. و روي روادها جمع رائد و هو الذي يسبق القوم فيرتاد لهم الكلأ و الماء. و الذروة أعلى السنام و الرأس و غيرهما. قوله معوذ المثار أي يعجز الناس إثارته و إزعاجه لقوته و متانته(11/160)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 194ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ص بِالْحَقِّ حِينَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الِانْقِطَاعُ وَ أَقْبَلَ مِنَ الآْخِرَةِ الِاطِّلَاعُ وَ أَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ وَ قَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَى سَاقٍَ خَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ وَ أَزِفَ مِنْهَا قِيَادٌ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا وَ اقْتِرَابٍ مِنْ أَشْرَاطِهَا وَ تَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهَا وَ انْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا وَ انْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا وَ عَفَاءٍ مِنْ أَعْلَامِهَا وَ تَكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا وَ قِصَرٍ مِنْ طُولِهَا جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَلَاغاً لِرِسَالَتِهِ وَ كَرَامَةً لِأُمَّتِهِ وَ رَبِيعاً لِأَهْلِ زَمَانِهِ وَ رِفْعَةً لِأَعْوَانِهِ وَ شَرَفاً لِأَنْصَارِهِ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لَا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ وَ سِرَاجاً لَا يَخْبُو تَوَقُّدُهُ وَ بَحْراً لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَ مِنْهَاجاً لَا يُضِلُّ نَهْجُهُ وَ شُعَاعاً لَا يُظْلِمُ ضَوْءُهُ وَ فُرْقَاناً لَا يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ وَ تِبْيَاناً لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ وَ شِفَاءً لَا تُخْشَى أَسْقَامُهُ وَ عِزّاً لَا تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ وَ حَقّاً لَا تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ فَهُوَ مَعْدِنُ الْإِيمَانِ وَ بُحْبُوحَتُهُ وَ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَ بُحُورُهُ وَ رِيَاضُ الْعَدْلِ وَ غُدْرَانُهُ وَ أَثَافِيُّ الْإِسْلَامِ وَ بُنْيَانُهُ وَ أَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَ غِيطَانُهُ وَ بَحْرٌ لَا يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ وَ عُيُونٌ لَا يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ وَ مَنَاهِلُ لَا يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ وَ مَنَازِلُ لَا يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ وَ أَعْلَامٌ لَا يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ وَ إِكَامٌ لَا يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ(11/161)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 195اختلاف الأقوال في عمر الدنياقوله ع حين دنا من الدنيا الانقطاع أي أزفت الآخرة و قرب وقتها و قد اختلف الناس في ذلك اختلافا شديدا فذهب قوم إلى أن عمر الدنيا خمسون ألف سنة قد ذهب بعضها و بقي بعضها. و اختلفوا في مقدار الذاهب و الباقي و احتجوا لقولهم بقوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قالوا اليوم هو إشارة إلى الدنيا و فيها يكون عروج الملائكة و الروح إليه و اختلافهم بالأمر من عنده إلى خلقه و إلى رسله قالوا و ليس قول بعض المفسرين أنه عنى يوم القيامة بمستحسن لأن يوم القيامة لا يكون للملائكة و الروح عروج إليه سبحانه لانقطاع التكليف و لأن المؤمنين إما أن يطول عليهم ذلك اليوم بمقدار خمسين ألف سنة أو يكون هذا مختصا بالكافرين فقط و يكون قصيرا على المؤمنين و الأول باطل لأنه أشد من عذاب جهنم و لا يجوز أن يلقى المؤمن هذه المشقة و الثاني باطل لأنه لا يجوز أن يكون الزمان الواحد طويلا قصيرا بالنسبة إلى شخصين اللهم إلا أن يكون أحدهما نائما أو ممنوا بعلة تجري مجرى النوم فلا يحس بالحركة و معلوم أن حال المؤمنين بعد بعثهم ليست هذه الحال. قالوا و ليست هذه الآية مناقضة للآية الأخرى و هي قوله تعالى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ و ذلك لأن سياق الكلام يدل على أنه أراد به الدنيا و ذلك لأنه قد ورد في الخبر أن شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 196بين ارض و السماء مسيرة خمسمائة عام فإذا نزل الملك إلى الأرض ثم عاد إلى السماء فقد قطع في ذلك اليوم مسيرة ألف عام أ لا ترى إلى قوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ أي ينزل الملك بالوحي و الأمر و الحكم من السماء إلى الأرض ثم يعود راجعا إليه و عارجا(11/162)


صاعدا إلى السماء فيجتمع من نزوله و صعوده مقدار مسير ألف سنة. و ذكر حمزة بن الحسن الأصفهاني في كتابه المسمى تواريخ الأمم أن اليهود تذهب إلى أن عدد السنين من ابتداء التناسل إلى سنة الهجرة لمحمد ص أربعة آلاف و اثنتان و أربعون سنة و ثلاثة أشهر. و النصارى تذهب إلى أن عدد ذلك خمسة آلاف و تسعمائة و تسعون سنة و ثلاثة أشهر. و أن الفرس تذهب إلى أن من عهد كيومرث والد البشر عندهم إلى هلاك يزدجرد بن شهريار الملك أربعة آلاف و مائة و اثنتين و ثمانين سنة و عشرة أشهر و تسعة عشر يوما و يسندون ذلك إلى كتابهم الذي جاء به زردشت و هو الكتاب المعروف بأبستا. فأما اليهود و النصارى فيسندون ذلك إلى التوراة و يختلفون في كيفية استنباط المدة. و تزعم النصارى و اليهود أن مدة الدنيا كلها سبعة آلاف سنة قد ذهب منها ما ذهب و بقي ما بقي. و قيل إن اليهود إنما قصرت المدة لأنهم يزعمون أن شيخهم الذي هو منتظرهم يخرج في أول الألف السابع فلو لا تنقيصهم المدة و تقصيرهم أيامها لتعجل افتضاحهم و لكن سيفتضحون فيما بعد عند من يأتي بعدنا من البشر.(11/163)

101 / 151
ع
En
A+
A-