الكتاب : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد |
زاد المنطلق
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 130252- و من كلام له ع لأبي ذر رحمه الله لما أخرج إلى الربذةيَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وَ خِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ وَ اهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ وَ أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ وَ سَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً وَ الْأَكْثَرُ حَسَداً وَ لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً لَا يُؤْنِسَنَّكَ إِلَّا الْحَقُّ وَ لَا يُوحِشَنَّكَ إِلَّا الْبَاطِلُ فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لَأَحَبُّوكَ وَ لَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوكَ
أخبار أبي ذر الغفاري حين خروجه إلى الربذة(9/221)
واقعة أبي ذر رحمه الله و إخراجه إلى الربذة أحد الأحداث التي نقمت على عثمان و قد روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة عن عبد الرزاق عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في الناس ألا يكلم أحد أبا ذر و لا يشيعه و أمر مروان بن الحكم أن يخرج به فخرج به و تحاماه الناس إلا علي شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 253بن أبي طالب ع و عقيلا أخاه و حسنا و حسينا ع و عمارا فإنهم خرجوا معه يشيعونه فجعل الحسن ع يكلم أبا ذر فقال له مروان إيها يا حسن أ لا تعلم أن أم المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك فحمل علي ع على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته و قال تنح لحاك الله إلى النار. فرجع مروان مغضبا إلى عثمان فأخبره الخبر فتلظى على علي ع و وقف أبو ذر فودعه القوم و معه ذكوان مولى أم هانئ بنت أبي طالب. قال ذكوان فحفظت كلام القوم و كان حافظا فقال علي ع يا أبا ذر إنك غضبت لله إن القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك فامتحنوك بالقلى و نفوك إلى الفلا و الله لو كانت السماوات و الأرض على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق و لا يوحشنك إلا الباطل ثم قال لأصحابه ودعوا عمكم و قال لعقيل ودع أخاك. فتكلم عقيل فقال ما عسى أن نقول يا أبا ذر و أنت تعلم أنا نحبك و أنت تحبنا فاتق الله فإن التقوى نجاة و اصبر فإن الصبر كرم و اعلم أن استثقالك الصبر من الجزع و استبطاءك العافية من اليأس فدع اليأس و الجزع. ثم تكلم الحسن فقال يا عماه لو لا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت و للمشيع أن ينصرف لقصر الكلام و إن طال الأسف و قد أتى القوم إليك ما ترى فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها و شدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها و اصبر حتى تلقى نبيك ص و هو عنك راض. ثم تكلم الحسين ع فقال يا عماه إن الله تعالى قادر أن يغير ما قد ترى(9/222)
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 254و الله كل يوم هو في شأن و قد منعك القوم دنياهم و منعتهم دينك فما أغناك عما منعوك و أحوجهم إلى ما منعتهم فاسأل الله الصبر و النصر و استعذ به من الجشع و الجزع فإن ابر من الدين و الكرم و إن الجشع لا يقدم رزقا و الجزع لا يؤخر أجلا. ثم تكلم عمار رحمه الله مغضبا فقال لا آنس الله من أوحشك و لا آمن من أخافك أما و الله لو أردت دنياهم لأمنوك و لو رضيت أعمالهم لأحبوك و ما منع الناس أن يقولوا بقولك إلا الرضا بالدنيا و الجزع من الموت مالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه و الملك لمن غلب فوهبوا لهم دينهم و منحهم القوم دنياهم فحسروا الدنيا و الآخرة إلا ذلك هو الخسران المبين. فبكى أبو ذر رحمه الله و كان شيخا كبيرا و قال رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله ص ما لي بالمدينة سكن و لا شجن غيركم إني ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام و كره أن أجاور أخاه و ابن خاله بالمصرين فأفسد الناس عليهما فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر و لا دافع إلا الله و الله ما أريد إلا الله صاحبا و ما أخشى مع الله وحشة. و رجع القوم إلى المدينة فجاء علي ع إلى عثمان فقال له ما حملك على رد رسولي و تصغير أمري فقال علي ع أما رسولك فأراد أن يرد وجهي فرددته و أما أمرك فلم أصغره. قال أ ما بلغك نهيي عن كلام أبي ذر قال أ و كلما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه قال عثمان أقد مروان من نفسك قال مم ذا قال من شتمه و جذب راحلته قال أما راحلته فراحلتي بها و أما شتمه إياي فو الله لا يشتمني شتمه إلا شتمتك مثلها لا أكذب عليك.(9/223)
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 255فغضب عثمان و قال لم لا يشتمك كأنك خير منه قال علي إي و الله و منك ثم قام فخرج. فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين و الأنصار و إلى بني أمية يشكو إليهم عليا ع فقال القوم أنت الوالي عليه و إصلاحه أجمل قال وددت ذاك فأتوا عليا ع فقال لو اعتذرت إلى مروان و أتيته فقال كلا أما مروان فلا آتيه و لا أعتذر منه و لكن إن أحب عثمان أتيته. فرجعوا إلى عثمان فأخبروه فأرسل عثمان إليه فأتاه و معه بنو هاشم
فتكلم علي ع فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما ما وجدت علي فيه من كلام أبي ذر و وداعه فو الله ما أردت مساءتك و لا الخلاف عليك و لكن أردت به قضاء حقه و أما مروان فإنه اعترض يريد ردي عن قضاء حق الله عز و جل فرددته رد مثلي مثله و أما ما كان مني إليك فإنك أغضبتني فأخرج الغضب مني ما لم أرده(9/224)
فتكلم عثمان فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما ما كان منك إلي فقد وهبته لك و أما ما كان منك إلى مروان فقد عفا الله عنك و أما ما حلفت عليه فأنت البر الصادق فأدن يدك فأخذ يده فضمها إلى صدره. فلما نهض قالت قريش و بنو أمية لمروان أ أنت رجل جبهك علي و ضرب راحلتك و قد تفانت وائل في ضرع ناقة و ذبيان و عبس في لطمة فرس و الأوس و الخزرج في نسعة أ فتحمل لعلي ع ما أتاه إليك فقال مروان و الله لو أردت ذلك لما قدرت عليه. و اعلم أن الذي عليه أكثر أرباب السيرة و علماء الأخبار و النقل أن عثمان نفى شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 2أبا ذر أولا إلى الشام ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية ثم نفاه من المدينة إلى الربذة لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام. أصل هذه الواقعة أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم و غيره بيوت الأموال و اختص زيد بن ثابت بشي ء منها جعل أبو ذر يقول بين لناس و في الطرقات و الشوارع بشر الكافرين بعذاب أليم و يرفع بذلك صوته و يتلو قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فرفع ذلك إلى عثمان مرارا و هو ساكت. ثم إنه أرسل إليه مولى من مواليه أن انته عما بلغني عنك فقال أبو ذر أ و ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى و عيب من ترك أمر الله تعالى فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي و خير لي من أن أسخط الله برضا عثمان. فأغضب عثمان ذلك و أحفظه فتصابر و تماسك إلى أن قال عثمان يوما و الناس حوله أ يجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئا قرضا فإذا أيسر قضى فقال كعب الأحبار لا بأس بذلك فقال أبو ذر يا ابن اليهوديين أ تعلمنا ديننا فقال عثمان قد كثر أذاك لي و تولعك بأصحابي الحق بالشام فأخرجه إليها. فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار فقال أبو ذر لرسوله إن كانت من(9/225)