حتى صار إلى الأبيات التي أنشدها ابن الزبير فقال معاوية يا أبا بكر أ ما ذكرت آنفا أن هذا الشعر لك فقال أنا أصلحت المعاني و هو ألف الشعر و بعد فهو ظئري و ما قال من شي ء فهو لي. و كان عبد الله بن الزبير مسترضعا في مزينة. و روى أبو العباس المبرد في الكامل أن مر بن عبد العزيز كتب في إشخاص إياس بن معاوية المزني و عدي بن أرطاة الفزاري أمير البصرة و قاضيها إليه فصار عدي إلى إياس و قدر أنه يمزنه عند عمر بن عبد العزيز و يثني عليه فقال له يا أبا وائلة إن لنا حقا و رحما فقال إياس أ على الكذب تريدني و الله ما يسرني أن كذبت كذبة يغفرها الله لي و لا يطلع عليها هذا و أومأ إلى ابنه و لي ما طلعت عليه الشمس. و روى أبو العباس أيضا أن عمرو بن معديكرب الزبيدي كان معروفا بالكذب. و قيل لخلف الأحمر و كان مولى لهم و شديد التعصب لليمن أ كان عمرو بن معديكرب يكذب قال يكذب في المقال و يصدق في الفعال. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 362قال أبو العباس فروي لنا أن أهل الكوفة الأشراف كانوا يظهرون بالكناسة فيركبون على دوابهم حتى تطردهم الشمس فوقف عمرو بن معديكرب الزبيدي و خالد بن الصقعب النهدي و عمرو لا يعرفه إنما يسمع باسمه فأقبل عمرو يحدثه فقالغرنا مرة على بني نهد فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب فحملت عليه فطعنته فأذريته ثم ملت عليه بالصمصامة فأخذت رأسه فقال خالد بن الصقعب حلا أبا ثور إن قتيلك هو المحدث فقال عمرو يا هذا إذا حدثت فاستمع فإنما نتحدث بمثل ما تستمع لنرهب به هذه المعدية. قوله مسترعفين أي مقدمين له و قوله حلا أبا ثور أي استثن يقال حلف و لم يتحلل أي لم يستثن و المعدية مضر و ربيعة و أياد بنو معد بن عدنان و هم أعداء اليمن في المفاخرة و التكاثر(7/338)
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 86363- و من خطبة له ععِبَادَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ وَ تَجَلْبَبَ الْخَوْفَ فَزَهَر مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ وَ أَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ وَ هَوَّنَ الشَّدِيدَ نَظَرَ فَأَبْصَرَ وَ ذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ وَ ارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ فَشَرِبَ نَهَلًا وَ سَلَكَ سَبِيلًا جَدَداً قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ وَ تَخَلَّى عَنِ الْهُمُومِ إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى وَ مُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى وَ صَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى وَ مَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ وَ سَلَكَ سَبِيلَهُ وَ عَرَفَ مَنَارَهُ وَ قَطَعَ غِمَارَهُ وَ اسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا وَ مِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَرْفَعِ الْأُمُورِ مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ وَ تَصْيِيرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِهِ مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ كَشَّافُ عَشَوَاتٍ مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ دَفَّاعِ مُعْضِلَاتٍ دَلِيلُ فَلَوَاتٍ يَقُولُ فَيُفْهِمُ وَ يَسْكُتُ فَيَسْلَمُ قَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ وَ أَوْتَادِ أَرْضِهِ قَدْ أَلْزَمَ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 364نَفْسَهُ الْعَدْلَ فَكَانَ أَوَّلُ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ يَصِفُ الْحَقَّ وَ يَعْمَلُ بِهِ لَا يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلَّا أَمَّهَا وَ لَا مَظِنَّةً إِلَّا قَصَدَهَا قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِ فَهُوَ(7/339)
قَائِدُهُ وَ إِمَامُهُ يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ وَ يَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ
استشعر الحزن جعله كالشعار و هو ما يلي الجسد من الثياب و تجلبب الخوف جعله جلبابا أي ثوبا. زهر مصباح الهدى أضاء و أعد القرى ليومه أي أعد ما قدمه من الطاعات قرى لضيف الموت النازل به و الفرات العذب. و قوله فشرب نهلا يجوز أن يكون أراد بقوله نهلا المصدر من نهل ينهل نهلا أي شرب حتى روي و يجوز أن يريد بالنهل الشرب الأول خاصة و يريد أنه اكتفى بما شربه أولا فلم يحتج إلى العلل. و طريق جدد لا عثار فيه لقوة أرضه و قطع غماره يقال بحر غمر أي كثير الماء و بحار غمار و استمسك من العرى بأوثقها أي من العقود الوثيقة قال تعالى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى. و نصب نفسه لله أي أقامها. كشاف عشوات جمع عشوة و عشوة و عشوة بالحركات الثلاث و هي الأمر الملتبس يقال أوطأني عشوة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 365و المعضلات جمع معضلة و هي الشدائد و الأمور التي لا يهتدي لوجهها. دليللوات أي يهتدى به كما يهتدي الركب في الفلاة بدليلهم. أمها قصدها و مظنة الشي ء حيث يظن وجوده و الثقل متاع المسافر و حشمه فصل في العباد و الزهاد و العارفين و أحوالهم(7/340)
و اعلم أن هذا الكلام منه أخذ أصحاب علم الطريقة و الحقيقة علمهم و هو تصريح بحال العارف و مكانته من الله تعالى. و العرفان درجة حال رفيعة شريفة جدا مناسبة للنبوة و يختص الله تعالى بها من يقربه إليه من خلقه. و الأولياء على طبقات ثلاث الطبقة الأولى حال العابد و هو صاحب الصلاة الكثيرة و الصوم الدائم و الحج و الصدقة. و الطبقة الثانية حال الزاهد و هو المعرض عن ملاذ الدنيا و طيباتها تقنعه الكسرة و تستره الخرقة لا مال و لا زوجة و لا ولد. و الطبقة الثالثة حال العارف و هو الواصل إلى الله سبحانه بنفسه لا ببدنه و البارئ سبحانه متمثل في نفسه تمثل المعشوق في ذات العاشق و هو أرفع الطبقات و بعده الزاهد. و أما العابد فهو أدونها و ذلك لأن العابد معامل كالتاجر يعبد ليثاب و يتعب نفسه ليرتاح فهو يعطي من نفسه شيئا و يطلب ثمنه و عوضه و قد يكون العابد غنيا موسرا كثير المال و الولد فليست حاله من أحوال الكمال. و أما الزاهد فإنه احتقر الدنيا و عروضها و قيناتها فخلصت نفسه من دناءة المطامع شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 366و صار عزيزا ملكا لا سلطان عليه لنفسه و لا لغيره فاستراح من الذل و الهوان و لم يبق لنفسه شي ء تشتاق إليه بعد الموت فكان أ إلى السلامة و النجاة من العابد الغني الموسر. و أما العارف فإنه بالحال التي وصفناها و يستلزم مع وجودها أن يكون زاهدا لأنه لا يتصور العرفان مع تعلق النفس بملاذ الدنيا و شهواتها نعم قد يحصل بعض العرفان لبعض العلماء الفضلاء مع تعلقهم بشهوات الدنيا و لكنهم لا يكونون كاملين في أحوالهم و إنما تحصل الحالة الكاملة لمن رفض الدنيا و تخلى عنها و تستلزم الحالة المذكورة أيضا أن يكون عابدا عبادة ما و ليس يشترط في حصول حال العرفان أن يكون على قدم عظيمة من العبادة بل الإكثار من العبادة حجاب كما قيل و لكن لا بد من القيام بالفرائض و شي ء يسير من النوافل. و اعلم أن العارف هو العارف بالله(7/341)
تعالى و صفاته و ملائكته و رسله و كتبه و بالحكمة المودعة في نظام العالم لا سيما الأفلاك و الكواكب و تركيب طبقات العناصر و الأحكام و في تركيب الأبدان الإنسانية. فمن حصل له ذلك فهو العارف و إن ل يحصل له ذلك فهو ناقص العرفان و إن انضم إلى ذلك استشعاره جلال الله تعالى و عظمته و رياضة النفس و المجاهدة و الصبر و الرضا و التوكل فقد ارتفع طبقة أخرى فإن حصل له بعد ذلك الحب و الوجد فقد ارتفع طبقة أخرى فإن حصل له بعد ذلك الإعراض عن كل شي ء سوى الله و أن صير مسلوبا عن الموجودات كلها فلا يشعر إلا بنفسه و بالله تعالى فقد ارتفع طبقة أخرى و هي أرفع طبقات. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 367و هناك طبقة أخرى يذكرونها و هي أن يسلب عن نفسه أيضا فلا يكون له شعور بها أصلا و إنما يكون شاعرا بالقيوم الأول سبحانه لا غير و ه درجة الاتحاد بأن تصير الذاتان ذاتا واحدة. و هذا قول قوم من الأوائل و من المتأخرين أيضا و هو مقام صعب لا تثبت العقول لتصوره و اكتناهه. و اعلم أن هذه الصفات و الشروط و النعوت التي ذكرها في شرح حال العارف إنما يعني بها نفسه ع و هو من الكلام الذي له ظاهر و باطن فظاهره أن يشرح حال العارف المطلق و باطنه أن يشرح حال عارف معين و هو نفسه ع و سيأتي في آخر الخطبة ما يدل على ذلك. و نحن نذكر الصفات التي أشار ع إليها واحدة واحدة فأولها أن يكون عبدا أعانه الله على نفسه و معنى ذلك أن يخصه بألطاف يختار عندها الحسن و يتجنب القبيح فكأنه أقام النفس في مقام العدو و أقام الألطاف مقام المعونة التي يمده الله سبحانه بها فيكسر عادية العدو المذكور و بهذا الاعتبار سمي قوم من المتكلمين اللطف عونا. و ثانيها أن يستشعر الحزن أي يحزن على الأيام الماضية إن لم يكن اكتسب فيها من موجبات الاختصاص أضعاف ما اكتسبه. و ثالثها أن يتجلبب الخوف أي يخاف من الإعراض عنه بأن يصدر عنه ما يمحوه من جريدة المخلصين. و رابعها أن يعد القرى(7/342)