أي احبسوا الذي أمسكه حتى يموت. و الضمير في فإنها قليل عائد إلى الأيام التي أمرهم باستدراكها يقول إن هذه الأيام التي قد بقيت من أعماركم قليلة بالنسبة و الإضافة إلى الأيام التي تغفلون فيها عن الموعظة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 355و قوله فإنها قليل فأخبر عنلمؤنث بصيغة المذكر إنما معناه فإنها شي ء قليل بحذف الموصوف كقوله وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أي قبيلا رفيقا. ثم قال و لا ترخصوا نهى عن الأخذ برخص المذاهب و ذلك لأنه لا يجوز للواحد من العامة أن يقلد كلا من أئمة الاجتهاد فيما خف و سهل من الأحكام الشرعية أو ا تساهلوا أنفسكم في ترك تشديد المعصية و لا تسامحوها و ترخصوا إليها في ارتكاب الصغائر و المحقرات من الذنوب فتهجم بكم على الكبائر لأن من مرن على أمر تدرج من صغيره إلى كبيره. و المداهنة النفاق و المصانعة و الادهان مثله قال تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ. قوله إن أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه لأنه قد صانها عن العقاب و أوجب لها الثواب و ذلك غاية ما يمكن من نصيحتها و نفعها. قوله و إن أغش الناس لنفسه أعصاهم لربه لأنه ألقاها في الهلاك الدائم و ذلك أقصى ما يمكن من غشها و الإضرار بها. ثم قال و المغبون من غبن نفسه أي أحق الناس أن يسمى مغبونا من غبن نفسه يقال غبنته في البيع غبنا بالتسكين أي خدعته و قد غبن فهو مغبون و غبن الرجل رأيه بالكسر غبنا بالتحريك فهو غبين أي ضعيف الرأي و فيه غبانة و لفظ الغبن يدل على أنه من باب غبن البيع و الشراء لأنه قال و المغبون و لم يقل و الغبين. و المغبوط الذي يتمنى مثل حاله و الذي يتمنى زوال حاله و انتقالها هو الحاسد شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 356و الحسد مذموم و الغبطة غير مذمومة يقال غبطته بما نال أغبطه غبطا و غبطة فاغتبط هو كقولك منعته فامتنع و حبسته فاحتبس قال الشاعرو بينما المرء في الأحياء مغتبط إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير(7/333)


هكذا أنشدوه بكسر الباء و قالوا فيه مغتبط أي مغبوط. قوله و السعيد من وعظ بغيره مثل من الأمثال النبوية. و قد ذكرنا فيما تقدم ما جاء في ذم الرياء و تفسير كونه شركا. و قوله ع منسأة للإيمان أي داعية إلى نسيان الإيمان و إهماله و الإيمان الاعتقاد و العمل. و محضرة للشيطان موضع حضوره كقولك مسبعة أي موضع السباع و مفعاة أي موضع الأفاعي. ثم نهى عن الكذب و قال إنه مجانب للإيمان و كذا ورد في الخبر المرفوع. و شفا منجاة أي حرف نجاة و خلاص و شفا الشي ء حرفه قال تعالى وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ و أشفى على لشي ء و أشرف عليه بمعنى و أكثر ما يقال ذلك في المكروه يقال أشفى المريض على الموت و قد استعمله هاهنا في غير المكروه. و الشرف المكان العالي بفتح الشين و أشرفت عليه أي اطلعت من فوق. و المهواة موضع السقوط و المهانة الحقارة. ثم نهى عن الحسد و قال إنه يأكل الإيان كما تأكل النار الحطب و قد ورد هذا الكلام في الأخبار المرفوعة و قد تقدم منا كلام في الحسد و ذكرنا كثيرا مما جاء فيه. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 357ثم نهى عن المباغضة و قال إنها الحالقة أي المستأصلة التي تأتي على القوم كالحلق للشعر. ثم نهى عن الأمل و طولو قال إنه يورث العقل سهوا و ينسي الذكر ثم أمر بإكذاب الأمل و نهى عن الاعتماد عليه و السكون إليه فإنه من باب الغرور. و قد ذكرنا في الأمل و طوله نكتا نافعة فيما تقدم و يجب أن نذكر ما جاء في النهي عن الكذب
فصل في ذم الكذب و حقارة الكذابين
جاء في الخبر عن رسول الله ص إذا كذب العبد كذبة تباعد الملك منه مسيرة ميل من نتن ما جاء به
و عنه ع إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور و الفجور يهدي إلى النار و إن الرجل ليكذب و يتحرى الكذب فيكتب عند الله كاذبا و عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر و إن البر ليهدي إلى الجنة و إن الرجل ليصدق و يتحرى الصدق فيكتب عند الله صادقا(7/334)


و روي أن رجلا قال للنبي ص أنا يا رسول الله أستسر بخلال أربع الزنا و شرب الخمر و السرق و الكذب فأيتهن شئت تركتها لك قال دع الكذب فلما ولى هم بالزنا فقال يسألني فإن جحدت نقضت ما جعلت له و إن أقررت حددت ثم هم بالسرق ثم بشرب الخمر ففكر في مثل ذلك فرجع إليه فقال قد أخذت على السبيل كله فقد تركتهن أجمع
قال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله يا بني أنت أفقه مني و أنا أعقل منك شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 358و إن هذا الرجل يدنيك يعني عمر بن الخطاب فاحفظ عني ثلاثا لا تفشين له سرا و لا تغتابن عنده أحدا و لا يطلعن منك على كذبة قال عبد الله فكانت هذه الثلاث أ إلي من ثلاث بدرات ياقوتا(7/335)


قال الواثق لأحمد بن أبي داود رحمه الله تعالى كان ابن الزيات عندي فذكرك بكل قبيح قال الحمد لله الذي أحوجه إلى الكذب علي و نزهني عن الصدق في أمره. و كان يقال أمران لا يكاد أحدهما ينفك من الكذب كثرة المواعيد و شدة الاعتذار. و من الحكم القديمة إنما فضل الناطق على الأخرس بالنطق و زين المنطق الصدق فالكاذب شر من الأخرس. قال الرشيد للفضل بن الربيع في كلام جرى بينهما كذبت فقال يا أمير المؤمنين وجه الكذوب لا يقابلك و لسانه لا يحاورك. قيل في تفسير قوله تعالى وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ هي في الكذابين فالويل لكل كاذب إلى يوم القيامة. و من كلام بعض الصالحين لو لم أترك الكذب تأثما لتركته تكرما. أبو حيان الكذب شعار خلق و مورد رنق و أدب سيئ و عادة فاحشة و قل من استرسل معه إلا ألفه و قل من ألفه إلا أتلفه و الصدق ملبس بهي و منهل غذي و شعاع منبث و قل من اعتاده و مرن عليه إلا صحبته السكينة و أيده التوفيق و خدمته القلوب بالمحبة و لحظته العيون بالمهابة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 359ابن السماك لا أدري أوجر على ترك الكذب أم لا لأني أتركه أنفة. يحيى بن خالد رأيت شريب خمر نزع و لصا أقلع و صاحب فواحش ارتدع و لم أر كاذبا رجع.الوا في تفسير هذا إن المولع بالكذب لا يكاد يصبر عنه فقد عوتب إنسان عليه فقال لمعاتبه يا ابن أخي لو تغرغرت به لما صبرت عنه. و قيل لكاذب معروف بالكذب أ صدقت قط قال لو لا أني أخاف أن أصدق لقلت لا.
و جاء في بعض الأخبار المرفوعة قيل له يا رسول الله أ يكون المؤمن جبانا قال نعم قيل أ فيكون بخيلا قال نعم قيل أ فيكون كاذبا قال لا
و قال ابن عباس الحدث حدثان حدث من فيك و حدث من فرجك
و قال بعضهم من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون أخذه شاعر فقال
و من دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق و بالباطل(7/336)


و كان يقال خذوا عن أهل الشرف فإنهم قلما يكذبون. و قال بعض الصالحين لو صحبني رجل فقال لي اشترط علي خصلة واحدة لا تزيد عليها لقلت لا تكذب. و كان يقال خصلتان لا يجتمعان الكذب و المروءة. كان يقال من شرف الصدق أن صاحبه يصدق على عدوه و من دناءة الكذب أن صاحبه يكذب و إن كان صادقا. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 360و مثل هذا قولهم من عرف بالصدق جاز كذبه و من عرف بالكذب لم يجز صدقه. و جاء في الخبر المرفوع أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب
و قال ابن سيرين الكلام أوسع من أن يكذب ظريف. و قالوا في قوله تعالى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ لم ينس و لكنه من معاريض الكلام و كذلك قالوا في قول إبراهيم إِنِّي سَقِيمٌ. و قال العتبي إني لأصدق في صغار ما يضرني فكيف لا أصدق في كبار ما ينفعني و قال بعض الشعراء
لا يكذب المرء إلا من مهانته أو عادة السوء أو من قلة الأدب لعض جيفة كلب خير رائحة من كذبة المرء في جد و في لعبشهد أعرابي عند معاوية بشهادة فقال له كذبت فقال الكاذب و الله المتزمل في ثيابك فقال معاوية هذا جزاء من عجل. و قال معاوية يوما للأحنف و حدثه حديثا أ تكذب فقال له الأحنف و الله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين أهله. و دخل عبد الله بن الزبير يوما على معاوية فقال له اسمع أبياتا قلتها و كان واجدا على معاوية فقال هات فأنشده
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته على طرف الهجران إن كان يعقل و يركب حد السيف من أن تضيمه إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحلفقال معاوية لقد شعرت بعدنا يا أبا بكر ثم لم يلبث معاوية أن دخل عليه معن شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 361بن أوس المزني فقال أ قلت بعدنا شيئا قال نعم و أنشدهلعمرك لا أدري و إني لأوجل على أينا تعدو المنية أول(7/337)

33 / 149
ع
En
A+
A-