حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ وَ تَقَضَّتِ الدُّهُورُ وَ أَزِفَ النُّشُورُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ وَ أَوْكَارِ الطُّيُورِ وَ أَوْجِرَةِ السِّبَاعِ وَ مَطَارِحِ الْمَهَالِكِ سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ رَعِيلًا صُمُوتاً قِيَاماً صُفُوفاً يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِاسْتِكَانَةِ وَ ضَرَعُ الِاسْتِسْلَامِ وَ الذِّلَّةِ قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَ انْقَطَعَ الْأَمَلُ وَ هَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً وَ خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً وَ أَلْجَمَ الْعَرَقُ وَ عَظُمَ الشَّفَقُ وَ أُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ وَ مُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ وَ نَكَالِ الْعِقَابِ وَ نَوَالِ الثَّوَابَ
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 250تصرمت الأمور تقطعت و مثله تقضت الدهور و أزف قرب و دنا يأزف أزفا و منه قوله تعالى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي القيامة الفاعل آزف. و الضرائح جمع ضريح و هو الشق في وسط القبر و اللحد ما كان في جانب القبر و ضرحت ضرحا إذا حفرت الضريح. الأوكار جمع وكر يفتح الواو و هو عش الطائر و جمع الكثرة وكور وكر الطائر يكر وكرا أي دخل وكره و الوكن بالفتح مثل الوكر أي العش. و أوجرة السباع جمع وجار بكسر الواو و يجوز فتحها و هو بيت السبع و الضبع و نحوهما. مهطعين مسرعين و الرعيل القطعة من الخيل. قوله ع ينفذهم البصر و يسمعهم الداعي أي هم مع كثرتهم لا يخفى منهم أحد عن إدراك البارئ سبحانه و هم مع هذه الكثرة أيضا لا يبقى منهم أحد إلا إذا دعا داعي الموت سمع دعاءه و نداءه. و اللبوس بفتح اللام ما يلبس قال
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها و إما بوسها(7/218)


و منه قوله تعالى وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ يعني الدروع. و الاستكانة الخضوع و الضرع الخشوع و الضعف ضرع الرجل يضرع و أضرعه غيره. و كاظمته ساكته كظم يكظم كظوما أي سكت و قوم كظم أي ساكتون. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 251و مهينمة ذات هينمة و هي الص الخفي و ألجم العرق صار لجاما
و في الحديث إن العرق ليجري منهم حتى إن منهم من يبلغ ركبتيه و منهم من يبلغ صدره و منهم من يبلغ عنقه و منهم من يلجمه و هم أعظمهم مشقة
و قال لي قائل ما أرى
لقوله ع المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة
كثير فائدة لأن طول العنق جدا ليس مما يرغب في مثله فذكرت له الخبر الوارد في العرق و قلت إذا كان الإنسان شديد طول العنق كان عن إلجام العرق أبعد فظهرت فائدة الخبر. و يروى و أنجم العرق أي كثر و دام. و الشفق و الشفقة بمعنى و هو الاسم من الإشفاق و هو الخوف و الحذر قال الشاعر
تهوى حياتي و أهوى موتها شفقا و الموت أكرم نزال على الحرم(7/219)


و أرعدت الأسماع عرتها الرعدة و زبرة الداعي صدته و لا يقال الصوت زبرة إلا إذا خالطه زجر و انتهار زبرته أزبره بالضم. و قوله إلى فصل الخطاب إلى هاهنا يتعلق بالداعي و فصل الخطاب بت الحكومة التي بين الله و بين عباده في الموقف رزقنا الله المسامحة فيها بمنه و إنما خص الأسماع بالرعدة لأنها تحدث من صوت الملك الذي يدعو الناس إلى محاسبته. و المقايضة المعاوضة قايضت زيدا بالمتاع و هما قيضان كما قالوا بيعان. فإن قلت كيف يصح ما ذكره المسلمون من حشر الأجساد و كيف يمكن ما أشار إليه ع من جمع الأجزاء البدنية من أوكار الطيور و أوجرة السباع و معلوم أنه قد يأكل الإنسان سبع و يأكل ذلك السبع إنسان آخر و يأكل هذا الإنسان طائر ثم يأكل الطائر إنسان آخر و المأكول يصير أجزاء من أجزاء بدن الآكل فإذا حشرت شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 252الحيوانات كلها على ما تزعم المعتزلة فتلك الأجزاء المفضة إما أن تحشر أجزاء من بنية الإنسان أو بنية السبع أو منهما معا فإن كان الأول وجب إلا يحشر السبع و إن كان الثاني وجب ألا يحشر الإنسان و الثالث محال عقلا لأن الجزء الواحد لا يكون في موضعين. قلت إن في بدن كل إنسان و كل حيوان أجزاء أصلية و أجزاء زائدة فالأجزاء الزائدة يمكن أن تصير أجزاء بدن حيوان إذا اغتذى بها و الأجزاء الأصلية لا يمكن ذلك فيها بل يحرسها الله تعالى من الاستحالة و التغيير و إذا كان كذلك أمكن الحشر بأن تعاد الأجزاء الأصلية إلى موضعها الأول و لا فساد في استحالة الأجزاء الزائدة لأنه لا يجب حشرها لأنها ليست أصل بنية المكلف فاندفع الأشكال و أما من يقول بالنفس الناطقة من أهل الملة فلا يلزمه الجواب عن السؤال لأنه يقول إن الأنفس إذا أزف يوم القيامة خلقت لها أبدان غير الأبدان الأولى لأن المكلف المطيع و العاصي المستحق للثواب و العقاب عندهم هو النفس و أما البدن فآلة لها نستعمله استعمال الكاتب للقلم و النجار للفأس(7/220)


عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً وَ مَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً وَ مَقْبُوضُونَ احْتِضَاراً وَ مُضَمِّنُونَ أَجْدَاثاً وَ كَائِنُونَ رُفَاتاً وَ مَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً وَ مَدِينُونَ جَزَاءً وَ مُمَيَّزُونَ حِسَاباً قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ الْمَخْرَجِ وَ هُدُوا سَبِيلَ الْمَنْهَجِ وَ عُمِّرُوا مَهَلَ الْمُسْتَعْتَبِ وَ كُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّيَبِ وَ خُلُّوا لِمِضْمَارِ الْجِيَادِ وَ رَوِيَّةِ الِارْتِيَادِ وَ أَنَاةِ الْمُقْتَبِسِ الْمُرْتَادِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ وَ مُضْطَرَبِ الْمَهَلِ(7/221)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 253مربوبون مملوكون و الاقتسار الغلبة و القهر. و الاحتضار حضور الملائكة عند الميت و هو حينئذ محتضر و كانت العرب تقول لبن محتضر أي فاسد ذو آفة يعنون أن الجن حضرته يقال اللبن محتضر فغط إناءك. و الأجداث جمع جدث و هو القبر و اجتدث اجل اتخذ جدثا و يقال جدف بالفاء. و الرفات الحطام تقول منه رفت الشي ء فهو مرفوت. و مدينون أي مجزيون و الدين الجزاء و منه مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. و مميزون حسابا من قوله تعالى وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ و من قوله تعالى وَ كُنْتُمْ أَزْواجا ثَلاثَةً كما أن قوله و مبعوثون أفرادا مأخوذ من قوله تعالى وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى و أصل التمييز على الفصل و التبيين. قوله قد أمهلوا في طلب المخرج أي انظروا ليفيئوا إلى الطاعة و يخلصوا التوبة لأن إخلاص التوبة هو المخرج الذي من سلكه خرج من ربقة المعصية و مثله قوله و هدوا سبيل المنهج و المنهج الطريق الواضح. و المستعتب المسترضى استعتبت زيدا إذا استرضيته عني فأنا مستعتب له و هو مستعتب و أعتبني أي أرضاني و إنما ضرب المثل بمهل المستعتب لأن من يطلب رضاه في مجرى العادة لا يرهق بالتماس الرضا منه و إنما يمهل ليرضى بقلبه لا بلسانه. و السدف جمع سدفة هي القطعة من الليل المظلم هذا في لغة أهل نجد و أما غيرهم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 254فيجعل السدفة الضوء و هذا اللفظ من الأضداد و كذلك السدف بفتح السين و الدال. و قد قيل السدفة اختلاط الضوء و الظلمة كوقت ما بين طلوع اجر إلى الإسفار و السدف الصبح و إقباله و أسدف الليل أظلم و أسدف الصبح أضاء يقال أسدف الباب أي افتحه حتى يضي ء البيت و في لغة هوازن أسدفوا أي أسرجوا من السراج و الريب الشبهة جمع ريبة. و المضمار الموضع الذي تضمر فيه الخيل و المضمار أيضا المدة التي تضمر فيها.و التضمير أن تعلف الفرس حتى يسمن ثم ترده إلى قوته الأولى و ذلك في(7/222)

10 / 149
ع
En
A+
A-