الكتاب : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد |
و اعلم أن الناس قد اختلفوا في أحكام النجوم فأنكرها جمهور المسلمين و المحققون من الحكماء و نحن نتكلم هاهنا في ذلك و نبحث فيه بحثين بحثا كلاميا و بحثا حكميا. أما البحث الكلامي هو أن يقال أما أن يذهب المنجمون إلى أن النجوم مؤثرة أو أمارات. و الوجه الأول ينقسم قسمين أحدهما أن يقال إنها تفعل بالاختيار و الثاني أن تفعل بالإيجاب. و القول بأنها تفعل بالاختيار باطل لأن المختار لا بد أن يكون قادرا حيا و الإجماع من المسلمين حاصل على أن الكواكب ليست حية و لا قادرة و الإجماع حجة و قد بين المتكلمون أيضا أن من شرط الحياة الرطوبة و أن تكون الحرارة على قدر مخصوص متى أفرط امتنع حلول الحياة في ذلك الجسم فإن النار على صرافتها يستحيل أن تكون حية و أن تحلها الحياة لعدم الرطوبة و إفراط الحرارة فيها و اليبس و الشمس أشد حرارة من النار لأنها على بعدها تؤثره النار على قربها و ذلك دليل على أن حرارتها أضعاف حرارة النار و بينوا أيضا أنها لو كانت حية قادرة لم يجز أن تفعل في غيرها ابتداء لأن القادر بقدرة لا يصح منه الاختراع و إنما يفعل في غيره على سبيل التوليد و لا بد من وصلة بين الفاعل و المفعول فيه و الكواكب غير مماسة لنا فلا وصلة بينها و بيننا فيستحيل أن تكون فاعلة فينا. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 201فإن ادعى مدع أن الوصلة هي الهواء فعن ذلك أجوبة أحدها أن الهواء لا يجوز أن يكون وصلة و آلة في الحركات الشديدة و حمل الأثقال لا سيما إذا لم يتموج. و الثاني أنه كان يجب أن نحس بذلك و نعلم أن الاء يحركنا و يصرفنا كما نعلم في الجسم إذا حركنا و صرفنا بآلة موضع تحريكه لنا بتلك الآلة. و الثالث أن في الأفعال الحادثة فينا ما لا يجوز أن يفعل بآلة و لا يتولد عن سبب كالإرادات و الاعتقادات و نحوها. و قد دلل أصحابنا أيضا على إبطال كون الكواكب فاعلة للأفعال فينا بأن ذلك يقتضي سقوط الأمر و النهي و المدح و الذم و يلزمهم ما(7/173)
يلزم المجبرة و هذا الوجه يبطل كون الكواكب فاعلة فينا بالإيجاب كما يبطل كونها فاعلة بالاختيار. و أما القول بأنها أمارات على ما يحدث و يتجدد فيمكن أن ينصر بأن يقال لم لا يجوز أن يكون الله تعالى أجرى العادة بأن يفعل أفعالا مخصوصة عند طلوع كوكب أو غروبه أو اتصاله بكوكب آخر. و الكلام على ذلك بأن يقال هذا غير ممتنع لو ثبت سمع مقطوع به يقتضي ذلك فإن هذا مما لا يعلم بالعقل. فإن قالوا نعلم بالتجربة. قيل لهم التجربة إنما تكون حجة إذا استمرت و اطردت و أنتم خطؤكم فيما تحكمون به أكثر من صوابكم فهلا نسبتم الصواب الذي يقع منكم إلى الاتفاق و التخمين فقد رأينا من أصحاب الزرق و التخمين من يصيب أكثر مما يصيب المنجم و هو من غير أصل صحيح و لا قاعدة معتمدة و متى قلتم إنما أخطأ المنجم لغلطه في تسيير الكواكب(7/174)
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 202قيل لكم و لم لا يكون سبب الإصابة اتفاقا و إنما يصح لكم هذا التأويل و التخريج لو كان على صحة أحكام النجوم دليل قاطع هو غير إصابة المنجم. فأما إذا كان دليل صحة الأحكام الإصابة فهلا كان دليل فسادها الخطاء فما أحدهما إلا في مقاب صاحبه. و مما قيل على أصحاب الأحكام إن قيل لهم في شي ء بعينه خذوا الطالع و احكموا أ يؤخذ أم يترك فإن حكموا بأحدهما خولفوا و فعل خلاف ما أخبروا به و هذه المسألة قد أعضل عليهم جوابها. و قال بعض المتكلمين لبعض المنجمين أخبرني لو فرضنا جادة مسلوكة و طريقا يمش فيها الناس نهارا و ليلا و في تلك المحجة آبار متقاربة و بين بعضها و بعض طريق يحتاج سالكه إلى تأمل و توقف حتى يتخلص من السقوط في بعض تلك الآبار هل يجوز أن تكون سلامة من يمشي بهذا الطريق من العميان كسلامة من يمشي فيه من البصراء و المفروض أن الطريق لا يخلو طرفة عين من مشاة فيها عميان و مبصرون و هل يجوز أن يكون عطب البصراء مقاربا لعطب العميان. فقال المنجم هذا مما لا يجوز بل الواجب أن تكون سلامة البصراء أكثر من سلامة العميان. فقال المتكلم فقد بطل قولكم لأن مسألتنا نظير هذه الصورة فإن مثال البصراء هم الذين يعرفون أحكام النجوم و يميزون مساعدها من مناحسها و يتوقون بهذه المعرفة مضار الوقت و الحركات و يتخطونها و يعتمدون منافعها و يقصدونها و مثال العميان كل من لا يحسن علم النجوم و لا يقولون به من أهل العلم و العامة و هم أضعاف أضعاف عدد المنجمين. شرح نهج البلاغة ج : 6 : 203و مثال الطريق الذي فيه الآبار الزمان الذي مضى و مر على الخلق أجمعين و مثال آباره مصائبه و محنه. و قد كان يجب لو صح علم أحكام النجوم أن سلامة المنجمين أكثر و مصائبهم أقل لأنهم يتوقون المحن و يتخطونها لعلمهم بها قبل كونها و أن تكون محن المعرضين عن علم أحكام النجوم على كثرتهم أوفر و أظهر حتى تكون سلامة كل واحد منهم هي(7/175)
الطريقة الغريبة و المعلوم خلاف ذلك فإن السلامة و المحن في الجميع متقاربة متناسبة غير متفاوتة. و أما البحث الحكمي في هذا الموضع فهو أن الحادث في عالم العناصر عند حلول الكوكب المخصوص في البرج المخصوص إما أن يكون المقتضي له مجرد ذلك الكوكب أو مجرد ذلك البرج أو حلول ذلك الكوكب في ذلك البرج فالأولان باطلان و إلا لوجب أن يحدث ذلك الأمر قبل أن يحدث و الثالث باطل أيضا لأنه إما أن يكون ذلك البرج مساويا لغيره من البروج في الماهية أو مخالفا و الأول يقتضي حدوث ذلك الحادث حال ما كان ذلك الكوكب حالا في غيره من البروج لأن حكم الشي ء حكم مثله و الثاني يقتضي كون كرة البروج متخالفة الأجزاء في أنفسها و يلزم في ذلك كونها مركبة و قد قامت الدلالة على أنه لا شي ء من الأفلاك بمركب. و قد اعترض على هذا الدليل بوجهينحدهما أنه لم لا يجوز أن تختلف أفعال الكواكب المتحيرة عند حلولها في البروج لا لاختلاف البروج في نفسها بل لاختلاف ما في تلك البروج من الكواكب الثابتة المختلفة الطبائع. الوجه الثاني لم لا يجوز أن يقال الفلك التاسع مكوكب بكواكب صغار لا نراها(7/176)
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 204لغاية بعدها عنا فإذا تحركت في كرات تداويرها سامتت مواضع مخصوصة من كرة الكواكب الثابتة و هي فلك البروج فاختلفت آثار الكواكب المتحيرة عند حلولها في البروج باعتبار اختلاف تلك الكواكب الصغيرة و لم لا يجوز إثبات كرة بين الكرة الثنة و بين الفلك الأطلس المدبر لجميع الأفلاك من المشرق إلى المغرب و تكون تلك الكرة المتوسطة بينهما بطيئة الحركة بحيث لا تفي أعمارنا بالوقوف على حركتها و هي مكوكبة بتلك الكواكب الصغار المختلفة الطبائع. و أجيب عن الأول بأنه لو كان الأمر كما ذكر لوجب أن تختلف بيوت الكواكب و أشرافها و حدودها عند حركة الثوابت بحركة فلكها حتى أنها تتقدم على مواضعها في كل مائة سنة على رأي المتقدمين أو في كل ست و ستين سنة على رأي المتأخرين درجة واحدة لكن ليس الأمر كذلك فإن شرف القمر كما أنه في زماننا في درجة الثالثة من الثور فكذلك كان عند الذين كانوا قبلنا بألف سنة و بألفي سنة. و أما الوجه الثاني فلا جواب عنه. و اعلم أن الفلاسفة قد عولت في إبطال القول بأحكام النجوم على وجه واحد و هو أن مبنى هذا العلم على التجربة و لم توجد التجربة فيما يدعيه أرباب علم النجوم فإن هاهنا أمورا لا تتكرر إلا في الأعمار المتطاولة مثل الأدوار و الألوف التي زعم أبو معشر أنها هي الأصل في هذا العلم و مثل مماسة جرم زحل للكرة المكوكبة و مثل انطباق معدل النهار على دائرة فلك البروج فإنهم يزعمون أن ذلك يقتضي حدوث طوفان الماء و إحاطته بالأرض من جميع الجوانب مع أن هذه الأمور لا توجد إلا في ألوف الألوف من السنين فكيف تصح أمثال هذه الأمور بالتجربة. و أيضا فإنا إذا رأينا حادثا حدث عند حلول كوكب مخصوص في برج مخصوص شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 205فكيف نعلم استناد حدوثه إلى ذلك الحلول فإن في الفلك كواكب لا تحصى فما الذي خصص حدوث ذلك الحدوث بحلول ذلك الكوكب في ذلك البرج لا غيره و بتقدير أن(7/177)