شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 233و صرح ابن الهيصم في كتاب المقالات بقيام الحوادث بذات البارئ فقال إنه تعالى إذا أمر أو نهى أو أراد شيئا كان أمره و نهيه و إراداته كائنة بعد أن لم تكن و هي قائمة به لأن قوله منه يسمع و كذلك إرادته منه توجد. قال و ليس قيام الحوث بذاته دليلا على حدوثه و إنما يدل على الحدوث تعاقب الأضداد التي لا يصح أن يتعطل منها و البارئ تعالى لا تتعاقب عليه الأضداد. و ذهب أبو البركات البغدادي صاحب المعتبر إلى أن الحوادث تقوم بذات البارئ سبحانه و إنه لا يصح إثبات الإلهية إلا بذلك و قال إن المتكلمين ينزهونه عن ذلك و التنزيه عن هذا التنزيه هو الواجب. و ذهب أصحابنا و أكثر المتكلمين إلى أن ذلك لا يصح في حق واجب الوجود و أنه دليل على إمكان ذاته بل على حدوثها و أجازوا مع ذلك عليه أن يتجدد له صفات يعنون الأحوال لا المعاني نحو كونه مدركا بعد أن لم يكن و كقول أبي الحسين أنه يتجدد له عالمية بما وجد و كان من قبل عالما بأنه سيوجد و إحدى هاتين الصفتين غير الأخرى. و قالوا إن الصفات و الأحوال قيل مفرد عن المعاني و المحال إنما هو حلول المعاني في ذاته لا تجدد الصفات لذاته و للكلام في هذا الباب موضع هو أليق به. النوع السادس في نفي اتحاده تعالى بغيره ذهب أكثر العقلاء إلى استحالة ذلك و ذهبت اليعقوبية من النصارى إلى أن الكلمة اتحدت بعيسى فصارت جوهرا من جوهرين أحدهما إلهي و الآخر جسماني و قد أجاز الاتحاد في نفس الأمر لا في ذات شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 234البارئ قوم مندماء الفلاسفة منهم فرفريوس و أجازه أيضا منهم من ذهب إلى أن النفس إنما تعقل المعقولات لاتحادها بالجوهر المفارق المفيض للنفوس على الأبدان و هو المسمى بالعقل الفعال. النوع السابع في نفي الأعراض الجسمانية عنه من التعب و الاستراحة و الألم و اللذة و الغم و السرور و نحو ذلك. و ذهبت المعتزلة و أكثر العقلاء من أهل الملة و غيرهم(4/202)


إلى نفي ذلك و القول باستحالته عليه سبحانه. و ذهبت الفلاسفة إلى جواز اللذة عليه و قالوا إنه يلتذ بإدراك ذاته و كماله لأن إدراك الكمال هو اللذة أو سبب اللذة و هو تعالى أكمل الموجودات و إدراكه أكمل الإدراكات و إلى هذا القول ذهب محمد الغزالي من الأشعرية. و حكى ابن الراوندي عن الجاحظ أن أحد قدماء المعتزلة و يعرف بأبي شعيب كان يجوز عليه تعالى السرور و الغم و الغيرة و الأسف و يذكر في ذلك ما روي
عن النبي ص أنه قال لا أحد أغير من الله و إنه تعالى يفرح بتوبة عبده و يسر بها(4/203)


و قال تعالى فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ و قال مقال المتحسر على الشي ء يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ و حكي عنه أيضا أنه يجوز عليه أن يتعب و يستريح و يحتج بقوله وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 235و هذه الألفاظ كلها عند أصحابمتأولة محمولة على محامل صحيحة تشتمل على شرحها الكتب المبسوطة. النوع الثامن في أنه تعالى ليس بمتلون لم يصرح أحد من العقلاء قاطبة بأن الله تعالى متلون و إنما ذهب قوم من أهل التشبيه و التجسيم إلى أنه نور فإذا أبصرته العيون و أدركته أبصرت شخصا نورانيا مضيئا لم يزيدوا على ذلك و لم يصرحوا بإثبات اللون بهذه العبارة و إن كان كل مضي ء ملونا. النوع التاسع في أنه تعالى لا يشتهي و لا ينفر ذهب شيوخنا المتكلمون إلى أنه سبحانه لا يصح عليه الشهوة و النفرة لأنهما إنما يصحان على ما يقبل الزيادة و النقصان بطريق الاغتذاء و المو و البارئ سبحانه و تعالى يتعالى عن ذلك و ما عرفت لأحد من الناس خلافا في ذلك اللهم إلا أن يطلق هاتان اللفظتان على مسمى الإرادة و الكراهية على سبيل المجاز. النوع العاشر في أن البارئ تعالى غير متناهي الذات قالت المعتزلة لما كان البارئ تعالى ليس بجسم و جسماني و كانت النهاية من لواحق الأشياء ذوات المقادير يقال هذا الجسم متناه أي ذو طرف. قلنا إن ذات البارئ تعالى غير متناهية لا على معنى أن امتداد ذاته غير متناه فإنه سبحانه ليس بذي امتداد بل بمعنى أن الموضوع الذي يصدق عليه النهاية ليس بمتحقق في حقه سبحانه فقلنا إن ذاته غير متناهية كما يقول المهندس إن النقطة غير متناهية لا على معنى أن لها امتدادا غير متناه فإنها ليست بممتدة أصلا بل على معنى أن الأمر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 236الذي تصدق عليه النهاية و هو الامتداد لا يصدق عليها فإذن صدق عليها أنها غير متناهية و ه قول الفلاسفة و أكثر المحققين. و قالت الكرامية البارئ تعالى ذات واحدة(4/204)


منفردة عن العالم قائمة بنفسها مباينة للموجودات متناهية في ذاتها و إن كنا لا نطلق عليها هذا اللفظ لما فيه من إيهام انقطاع وجودها و تصرم بقائها. و أطلق هشام بن الحكم و أصحابه عليه تعالى القول بأنه متناهي الذات غير متناهي القدرة. و قال الجاحظ إن لي قوما زعموا أنه تعالى ذاهب في الجهات الست التي لا نهاية لها. النوع الحادي عشر في أنه تعالى لا تصح رؤيته قالت المعتزلة رؤية البارئ تعالى مستحيلة في الدنيا و الآخرة و إنما يصح أن يرى المقابل ذو الجهة. و قالت الكرامية و الحنابلة و الأشعرية تصح رؤيته و يرى في الآخرة يراه المؤمنون ثم اختلفوا فقالت الكرامية و الحنابلة يرى في جهة فوق و حكي عن مضر و كهمس و أحمد الجبي أنهم أجازوا رؤيته في الدنيا و ملامسته و مصافحته و زعموا أن المخلصين يعانقونه متى شاءوا و يسمون الحبية. و حكى شيخنا أبو الحسين في التصفح عن أيوب السجستاني من المرجئة أن البارئ تعالى تصح رؤيته و لمسه. و ذهب قوم إلى أنهم لا يزالون يرون الله تعالى و أن الناس كلهم كافرهم و مؤمنهم يرونه و لكن لا يعرفونه.(4/205)


شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 237و قال من ترفع عن هذه الطبقة منهم لا يجوز أن يرى بعين خلقت للفناء و إنما يرى في الآخرة بعين خلقت للبقاء. و قال كثير من هؤلاء إن محمدا ص رأى ربه بعيني رأسه ليلة المعراج. و رووا عن كعب الأحبار أن الله تعالى قسم كلامه و رؤيته بيموسى و محمد ع. و رووا عن المبارك بن فضالة أن الحسن كان يحلف بالله قد رأى محمد ربه. و تعلق كثير منهم بقوله تعالى وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى و قالوا كلمه موسى ع مرتين و رآه محمد ص مرتين. و أنكر ابن الهيصم مع اعتقاده أقوال الكرامية ذلك و قال إن محمدا ص لم يره و لكنه سوف يراه في الآخرة. قال و إلى هذا القول ذهبت عائشة و أبو ذر و قتادة و قد روي مثله عن ابن عباس و ابن مسعود. و اختلف من قال إنه يرى في الآخرة هل يجوز أن يراه الكافر فقال أكثرهم إن الكفار لا يرونه لأن رؤيته كرامة و الكافر لا كرامة له و قالت السالمية و بعض الحشوية إن الكفار يرونه يوم القيامة و هو قول محمد بن إسحاق بن خزيمة ذكر ذلك عنه محمد بن الهيصم. فأما الأشعري و أصحابه فإنهم لم يقولوا كما قال هؤلاء إنه يرى كما يرى الواحد منا بل قالوا يرى و ليس فوقا و لا تحتا و لا يمينا و لا شمالا و لا أماما و لا وراء و لا يرى كله و لا بعضه و لا هو في مقابلة الرائي و لا منحرفا عنه و لا تصح الإشارة إليه إذا رئي شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 238و هو مع ذلك يرى و يبصر و أجازوا أيضا عليه أن تسمع ذاته و أن تشم و تذاق و تحس لا على طريق الاتصال بل تتعلق هذه الإدراكات كلها اته تعلقا عاريا عن الاتصال و أنكرت الكرامية ذلك و لم يجيزوا عليه إلا إدراك البصر وحده و ناقضهم شيخنا أبو الحسين في التصفح و ألزمهم أحد أمرين إما نفي الجميع أو إثبات إدراكه من جميع الجهات كما يقوله الأشعرية. و ذهب ضرار بن عمرو إلى أن الله تعالى يرى يوم القيامة بحاسة سادسة لا بهذا البصر و قيل ذلك عن جماعة غيره. و قال قوم(4/206)

9 / 148
ع
En
A+
A-