هذه الروايات على وجوه محتملة غير مستبعدة و ما لا يحتمل التأويل منها يقطعون ببطلانه و بأنه موضوع و للاستقصاء في هذا المعنى موضع غير هذا الموضع. و حكى أبو إسحاق النظام و محمد بن عيسى برغوث أن قوما قالوا إنه تعالى الفضاء نفسه و ليس بجسم لأن الجسم يحتاج إلى مكان و نفسه مكان الأشياء. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 228و قال برغوث و طائفة منهم يقولون هو الفضاء نفسه و هو جسم تحل الأشياء فيه و ليس بذي غاية و لا نهاية و احتجوا بقوله تعالى وَ جاهِدُوا فِي اَّهِ حَقَّ جِهادِهِ. فأما من قال إنه جسم لا كالأجسام على معنى أنه بخلاف العرض الذي يستحيل أن يتوهم منه فعل و نفوا عنه معنى الجسمية و إنما أطلقوا هذه اللفظة لمعنى أنه شي ء لا كالأشياء و ذات لا كالذوات فأمرهم سهل لأن خلافهم في العبارة و هم علي بن منصور و الكاك و يونس بن عبد الرحمن و الفضل بن شاذان و كل هؤلاء من قدماء رجال الشيعة و قد قال بهذا القول ابن كرام و أصحابه قالوا معنى قولنا فيه سبحانه أنه جسم أنه قائم بذاته لا بغيره. و المتعصبون لهشام بن الحكم من الشيعة في وقتنا هذا يزعمون أنه لم يقل بالتجسيم المعنوي و إنما قال إنه جسم لا كالأجسام بالمعنى الذي ذكرناه عن يونس و السكاك و غيرهما و إن كان الحسن بن موسى النوبختي و هو من فضلاء الشيعة قد روي عنه التجسيم المحض في كتاب الآراء و الديانات. النوع الثاني نفي الأعضاء و الجوارح عنه سبحانه فالذي يذهب إليه المعتزلة و سائر المحققين من المتكلمين نفي ذلك عنه و قد تأولوا ما ورد في القرآن العزيز من ذلك من نحو قوله تعالى لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ و قوله سبحانه عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ و غير ذلك و حملوه على وجوه صحيحة جائزة في اللغة العربية. و أطلقت الكرامية عليه سبحانه لفظ اليدين و الوجه و قالوا لا نتجاوز الإطلاق شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 229و لا نفسر ذلك و لا نتأوله و إنما نقتصر على إطلاق(4/197)
ما ورد به النص. و أثبت الأشعري اليدين صفة قائمة بالبارئ سبحانه و كذلك الوجه من غير تجسيم. و قالت المجسمة إن لله تعالى يدين هما عضوان له و كذلك الوجه و العين و أثبتوا له رجلين فضلتا عن عرشه و ساقين يكشف عنهما يوم القيامة و قدما يضعها في جهنم فتمتلئ و أثبتوا له ذلك معنى لا لفظا و حقيقة لا مجازا. فأما أحمد بن حنبل فلم يثبت عنه تشبيه و لا تجسيم أصلا و إنما كان يقول بترك التأويل فقط و يطلق ما أطلقه الكتاب و السنة و لا يخوض في تأويله و يقف على قوله تعالى وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ و أكثر المحصلين من أصحابه على هذا القول. النوع الثالث نفي الجهة عنه سبحانه فالذي يذهب إليه المعتزلة و جمهور المحققين من المتكلمين أنه سبحانه ليس في جهة و لا مكان و أن ذلك من توابع الجسمية أو العرضية اللاحقة بالجسمية فإذا انتفى عنه كونه جسما و كونه عرضا لم يكن في جهة أصلا و إلى هذا القول يذهب الفلاسفة. و ذهبت الكرامية و الحشوية إلى أن الله تعالى في جهة فوق و إليه ذهب هشام بن الحكم و علي بن منصور و يونس بن عبد الرحمن و هشام بن سالم الجواليقي و كثير من أهل الحديث. و ذهب محمد بن الهيصم متكلم الكرامية إلى أنه تعالى ذات موجودة منفردة بنفسها عن سائر الموجودات لا تحل شيئا حلول الأعراض و لا تمازج شيئا ممازجة الأجسام شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 230بل هو مباين للمخلوقين إلا أنه في جهة فوق و بينه و بين الع بعد لا يتناهى. هكذا يحكي المتكلمون عنه و لم أره في شي ء من تصانيفه و أحالوا ذلك لأن ما لا يتناهى لا يكون محصورا بين حاصرين و أنا أستبعد عنه هذه الحكاية لأنه كان أذكى من أن يذهب عليه فساد هذا القول و حقيقة مذهب مثبتي المكان أنه سبحانه متمكن على العرش كما تمكن الملك على سريره فقيل لبعض هؤلاء أ هو أكبر من العرش أم أصغر أم مساو له فقال بل أكبر من العرش فقيل له فكيف يحمله فقال كما تحمل رجلا الكركي جسم(4/198)
الكركي و جسمه أكبر من رجليه و منهم من يجعله مساويا للعرش في المقدار و لا يمتنع كثير منهم من إطلاق القول بأن أطرافه تفضل عن العرش و قد سمعت أنا من قال منهم إنه مستو على عرشه كما أنا مستو على هذه الدكة و رجلاه على الكرسي الذي وسع السموات و الأرض و الكرسي تحت العرش كما يجعل اليوم الناس تحت أسرتهم كراسي يستريحون بوضع أرجلهم عليها. و قال هؤلاء كلهم إنه تعالى ينزل و يصعد حقيقة لا مجازا و إنه يتحرك و ينزل فمن ذلك نزوله إلى السماء الدنيا كما ورد في الخبر و من ذلك إتيانه و مجيئه كما نطق به الكتاب العزيز في قوله سبحانه هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ و قوله وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. و أطلق ابن الهيصم عليه هذه الألفاظ اتباعا لما ورد في الكتاب و السنة و قال لا أقول بمعانيها و لا أعتقد حركته الحقيقية و إنما أرسلها إرسالا كما وردت و أما غيره فاعتقد معانيها حقيقة و قال ابن الهيصم في كتاب المقالات إن أكثر الحشوية يجيز عليه تعالى العدو و الهرولة.(4/199)
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 231و قال قوم منهم إنه تعالى يجوز أن ينزل فيطوف البلدان و يدور في السكك. و قال بعض الأشعريين إن سائلا سأل السكاك فقال إذا أجزت عليه الحركة فهلا أجزت عليه أن يطفر فقال لا يجوز عليه الطفر لأن الطفر إنما يكون فرارا من ضد أو اتصالا كل فقال له فالحركة أيضا كذلك فلم يأت بفرق. فأما القول بأنه تعالى في كل مكان فإن المعتزلة يقولون ذلك و تريد به أنه و إن لم يكن في مكان أصلا فإنه عالم بما في كل مكان و مدبر لما في كل مكان و كأنه موجود في جميع الأمكنة لإحاطته بالجميع. و قال قوم من قدماء الفلاسفة إن البارئ تعالى روح شديد في غاية اللطافة و في غاية القوة ينفذ في كل العالم و هؤلاء يطلقون عليه أنه في كل مكان حقيقة لا تأويلا و من هؤلاء من أوضح هذا القول و قال إنه تعالى سار في هذا العالم سريان نفس الواحد منا في بدنه فكما أن كل بدن منا له نفس سارية فيه تدبره كذلك البارئ سبحانه هو نفس العالم و سار في كل جزء من العالم فهو إذا في كل مكان بهذا الاعتبار لأن النفس في كل جزء من البدن. و حكى الحسن بن موسى النوبختي عن أهل الرواق من الفلاسفة أن الجوهر الإلهي سبحانه روح ناري عقلي ليس له صورة لكنه قادر على أن يتصور بأي صورة شاء و يتشبه بالكل و ينفذ في الكل بذاته و قوته لا بعلمه و تدبيره. النوع الرابع نفي كونه عرضا حالا في المحل فالذي تذهب إليه المعتزلة و أكثر المسلمين و الفلاسفة نفي ذلك القول باستحالته عليه سبحانه لوجوب وجوده و كون كل حال في الأجسام ممكنا بل حادثا. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 232و ذهبت الحلولية من أهل الملة و غيرها إلى أنه تعالى يحل في بعض الأجسام دون بعض كما يشاء سبحانه و إلى هذا القول ذهب أكثر الغلاة في أمير المؤمنين و منهم من قال بانتقاله من أمير المؤمنين ع إلى أولاده و منهم من قال بانتقاله من أوده إلى قوم من شيعته و أوليائه و اتبعهم على هذه المقالة قوم من(4/200)
المتصوفة كالحلاجية و البسطامية و غيرهم. و ذهبت النسطورية من النصارى إلى حلول الكلمة في بدن عيسى ع كحلول السواد في الجسم. فأما اليعقوبية من النصارى فلا تثبت الحلول و إنما تثبت الاتحاد بين الجوهر الإلهي و الجوهر الجسماني و هو أشد بعدا من الحلول. النوع الخامس في نفي كونه تعالى محلا لشي ء ذهبت المعتزلة و أكثر أهل الملة و الفلاسفة إلى نفي ذلك و القول باستحالته على ذاته سبحانه. و ذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تحل في ذاته فإذا أحدث جسما أحدث معنى حالا ف ذاته و هو الإحداث فحدث ذلك الجسم مقارنا لذلك المعنى أو عقيبه قالوا و ذلك المعنى هو قول كن و هو المسمى خلقا و الخلق غير المخلوق قال الله تعالى ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ قالوا لكنه قد أشهدنا ذواتها فدل على أن خلقها غيرها.(4/201)