أي تسفهوا لما رأوا من كثرة اللبن و الخصب فأفسدوا في الأرض و أغار بعضهم على بعض و القرن الجعبة. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 57و قيل لبعضهم متى يخاف من شر بني فلان فقال إذا ألبنوا. و من الكنايات الداخلة في باب الإيماء قول الشاعرفتى لا يرى قد القميص بخصره و لكنما يوهي القميص عواتقه
لما كان سلامة القميص من الخرق في موضع الخصر تابعا لدقة الخصر و وهنه في الكاهل تابعا لعظم الكاهل ذكر ما دل بهما على دقة خصر هذا الممدوح و عظم كاهله و منه قول مسلم بن الوليد
فرعاء في فرعها ليل على قمر على قضيب على حقف النقا الدهس كأن قلبي وشاحاها إذا خطرت و قلبها قلبها في الصمت و الخرس تجري محبتها في قلب عاشقها مجرى السلامة في أعضاء منتكفلما كان قلق الوشاح تابعا لدقة الخصر ذكره دالا به عليه. و من هذا الباب قول القائل
إذا غرد المكاء في غير روضة فويل لأهل الشاء و الحمرات
أومأ بذلك إلى الجدب لأن المكاء يألف الرياض فإذا أجدبت الأرض سقط في غير روضة و غرد فالويل حينئذ لأهل الشاء و الحمر. و منه قول القائل
لعمري لنعم الحي حي بني كعب إذا جعل الخلخال في موضع القلب
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 58القلب السوار يقول نعم الحي هؤلاء إذا ريع الناس و خافوا حتى إن المرأة لشدة خوفها تلبس الخلخال مكان السوار فاختصر الكلام اختصارا شديدا. و منه قول الأفوه الأوديإن بني أود هم ما هم للحرب أو للجدب عام الشموس
أشار إلى الجدب و قلة السحب و المطر أي الأيام التي كلها أيام شمس و صحو لا غيم فيها و لا مطر. فقد ذكرنا من الكنايات و التعريضات و ما يدخل في ذلك و يجري مجراه من باب الإيماء و الرمز قطعة صالحة و سنذكر شيئا آخر من ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى إذا مررنا في شرح كلامه ع بما يقتضيه و يستدعيه(6/35)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 59حقيقة الكناية و التعريض و الفرق بينهماو قد كنا وعدنا أن نذكر كلاما كليا في حقيقة الكناية و التعريض و الفرق بينهما فنقول الكناية قسم من أقسام المجاز و هو إبدال لفظة عرض في النطق بها مانع بلفظة لا مانع عن النطق بها كقوله ع قرارات النساء لما وجد الناس قد تواضعوا على استهجان لفظة أرحام النساء. و أما التعريض فقد يكون بغير اللفظ كدفع أسماء بن خارجة الفص الفيروز الأزرق من يده إلى ابن معكبر الضبي ادكارا له بقول الشاعر
كذا كل ضبي من اللؤم أزرق
فالتعريض إذا هو التنبيه بفعل أو لفظ على معنى اقتضت الحال العدول عن التصريح به. و أنا أحكي هاهنا كلام نصر الله بن محمد بن الأثير الجزري في كتابه المسمى بالمثل السائر في الكناية و التعريض و أذكر ما عندي فيه قال خلط أرباب هذه الصناعة الكناية بالتعريض و لم يفصلوا بينهما فقال ابن سنان إن قول إمرئ القيس
فصرنا إلى الحسنى و رق كلامنا و رضت فذلت صعبة أي إذلال(6/36)


شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 60من باب الكناية و الصحيح أنه من باب التعريض. قال و قد قال الغانمي و العسكري و ابن حمدون و غيرهم نحو ذلك و مزجوا أحد القسمين بالآخر. قال و قد حد قوم الكناية فقالوا هي اللفظ الدال على الشي ء بغير الوضع الحقيقي بوصف جامع بين الكة و المكنى عنه كاللمس و الجماع فإن الجماع اسم لموضوع حقيقي و اللمس كناية عنه و بينهما وصف جامع إذ الجماع لمس و زيادة فكان دالا عليه بالوضع المجازي. قال و هذا الحد فاسد لأنه يجوز أن يكون حدا للتشبيه و المشبه فإن التشبيه هو اللفظ الدال على الوضع الحقيقي الجامع بين المشبه و المشبه به في صفة من الأوصاف أ لا ترى إذا قلنا زيد أسد كان ذلك لفظا دالا على غير الوضع الحقيقي بوصف جامع بين زيد و الأسد و ذلك الوصف هو الشجاعة. قال و أما أصحاب أصول الفقه فقالوا في حد الكناية إنها اللفظ المحتمل و معناه أنها اللفظ الذي يحتمل الدلالة على المعنى و على خلافه. و هذا منقوض بالألفاظ المفردة المشتركة و بكثير من الأقوال المركبة المحتملة للشي ء و خلافه و ليست بكنايات. قال و عندي أن الكنايات لا بد أن يتجاذبها جانبا حقيقة و مجاز و متى أفردت جاز حملها على الجانبين معا أ لا ترى أن اللمس ي قوله سبحانه أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 61يجوز حمله على الحقيقة و المجاز و كل منهما يصح به المعنى و لا يختل و لهذا قال الشافعي إن ملامسة المرأة تنقض الوضوء و الطهارة. و ذهب غيره إلى أن المراد باللمس في الآية الجماع و هو الكناية مجازية فكل موضع يرد فيه الكناية فسبيله هذا السبيل و ليس التشبيه بهذه الصورة و لا غيره من أقسام المجاز لأنه لا يجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصة و لو حمل على جانب الحقيقة لاستحال المعنى أ لا ترى أنا إذا قلنا زيد أسد لم يصح أن يحمل إلا على الجهة المجازية و هي التشبيه بالأسد في شجاعته و لا يجوز حمله على الجهة الحقيقية لأن(6/37)


زيدا لا يكون سبعا ذا أنياب و مخالب فقد صار إذن حد الكناية أنها اللفظ الدال على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة و المجاز بوصف جامع بين الحقيقة و المجاز. قال و الدليل على ذلك أن الكناية في أصل الوضع أن تتكلم بشي ء و تريد غيره يقال كنيت بكذا عن كذا فهي تدل على ما تكلمت به و على ما أردته من غيره فلا يخلو إما أن يكون في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة و حقيقة أو في لفظ تجاذبه جانبا مجاز و مجاز أو في لفظ لا يتجاذبه أمر و ليس لنا قسم رابع. و الثاني باطل لأ ذاك هو اللفظ المشترك فإن أطلق من غير قرينة مخصصة كان مبهما غير مفهوم و إن كان معه قرينة صار مخصصا لشي ء بعينه و الكناية أن تتكلم بشي ء و تريد غيره و ذلك مخالف للفظ المشترك إذا أضيف إليه القرينة لأنه يختص بشي ء واحد بعينه و لا يتعداه إلى غيره و الثالث ب أيضا لأن المجاز لا بد له من حقيقة ينقل عنها لأنه فرع عليها. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 62و ذلك اللفظ الدال على المجاز إما أن يكون للحقيقة شركة في الدلالة عليه أو لا يكون لها شركة في الدلالة عليه كان اللفظ الواحد قد دل على ثلاثة أشياء أحدها الحقيقة و الآخن المجازان. و هذا مخالف لأصل الوضع لأن أصل الوضع أن تتكلم بشي ء و أنت تريد غيره و هاهنا يكون قد تكلمت بشي ء و أنت تريد شيئين غيرين و إن لم يكن للحقيقة شركة في الدلالة كان ذلك مخالفا لأصل الوضع أيضا إذ أصل الوضع أن تتكلم بشي ء و أنت تريد غيره فيكون الذي مت به دالا على غيره و إذا أخرجت الحقيقة عن أن يكون لها شركة في الدلالة لم يكن الذي تكلمت به و هذا محال فثبت إذن أن الكناية هي أن تتكلم بالحقيقة و أنت تريد المجاز. قال و هذا مما لم يسبقني إليه أحد. ثم قال قد يأتي من الكلام ما يجوز أن يكون كناية و يجوز أن يكون استعارة و يختلف ذلك باختلاف النظر إليه بمفرده و النظر إلى ما بعده كقول نصر بن سيار في أبياته المشهورة التي يحرض بها على بني أمية عند(6/38)


خروج أبي مسلم
أرى خلل الرماد و ميض جمر و يوشك أن يكون له ضرام فإن النار بالزندين توري و إن الحرب أولها كلام شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 63أقول من التعجب ليت شعري أ أيقاظ أمية أم نيافالبيت الأول لو ورد بمفرده لكان كناية لأنه لا يجوز حمله على جانبي الحقيقة و المجاز فإذا نظرنا إلى الأبيات بجملتها كان البيت الأول المذكور استعارة لا كناية. ثم أخذ في الفرق بين الكناية و التعريض فقال التعريض هو اللفظ الدال على الشي ء من طريق المفهوم لا بالضع الحقيقي و لا بالمجازي فإنك إذا قلت لمن تتوقع معروفه و صلته بغير طلب أنا محتاج و لا شي ء في يدي و أنا عريان و البرد قد آذاني فإن هذا و أشباهه تعريض بالطلب و ليس اللفظ موضوعا للطلب لا حقيقة و لا مجازا و إنما يدل عليه من طريق المفهوم بخلاف قوله أَوْ لامَستُمُ النِّساءَ و على هذا ورد تفسير التعريض في خطبة النكاح كقولك للمرأة أنت جميلة أو إنك خلية و أنا عزب فإن هذا و شبهه لا يدل على طلب النكاح بالحقيقة و لا بالمجاز و التعريض أخفى من الكناية لأن دلالة الكناية وضعية من جهة المجاز و دلالة التعريض من جهة المفهوم المركب و ليست وضعية و إنما يسمى التعريض تعريضا لأن المعنى فيه يفهم من عرض اللفظ المفهوم أي من جانبه. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 64قال و اعلم أن الكناية تشتمل على اللفظ المفرد و اللفظ المركب فتأتي على هذا مرة و على هذا أخرى و أما التعريض فإنه يختص باللفظ مركب و لا يأتي في اللفظ المفرد البتة لأنه لا يفهم المعنى فيه من جهة الحقيقة و لا من جهة المجاز بل من جهة التلويح و الإشارة و هذا أمر لا يستقل به اللفظ المفرد و يحتاج في الدلالة عليه إلى اللفظ المركب. قال فقد ظهر فيما قلنا في البيت الذي ذكره ابن سنان مثال الكناية و مثال التعريض هو بيت إمرئ القيس لأن غرض الشاعر منه أن يذكر الجماع إلا أنه لم يذكره بل ذكر كلاما آخر ففهم الجماع من عرضه لأن المصير إلى(6/39)

78 / 148
ع
En
A+
A-