أقول لزيد لا تترتر فإنهم يرون المنايا دون قتلك أو قتلي فإن وضعوا حربا فضعها و إن أبوا فعرضة نار الحرب مثلك أو مثلي و إن رفعوا الحرب العوان التي ترى فشب وقود النار بالحطب الجزفقال الحجاج أصاب أمير المؤمنين فيما أوصاني و أصاب البكري فيما أوصى به زيدا و أصبت أيها الأعرابي و دفع إليه الدراهم. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 38و كتب إلى المهلب أن أمير المؤمنين أوصاني بما أوصى به البكري زيدا و أنا أوصيك بذلك و بما أوصى به الحارث بن كعب يه. فنظر المهلب في وصية الحارث بن كعب فإذا فيها يا بني كونوا جميعا و لا تكونوا شيعا فتفرقوا و بزوا قبل أن تبزوا الموت في قوة و عز خير من الحياة في ذل و عجز. فقال المهلب صدق البكري و أصاب و صدق الحارث و أصاب. و اعلم أن كثيرا مما ذكرناه داخل في باب التعريض و خارج عن باب الكناية و إنما ذكرناه لمشابهة الكناية و كونهما كالنوعين تحت جنس عام و سنذكر كلاما كليا فيهما إذا انتهينا إلى آخر الفصل إن شاء الله. و من الكنايات قول أبي نواس
و ناظرة إلي من النقاب تلاحظني بطرف مستراب كشفت قناعها فإذا عجوز مموهة المفارق بالخضاب فما زالت تجشمني طويلا و تأخذ في أحاديث التصابي تحاول أن يقوم أبو زياد و دون قيامه شيب الغراب أتت بجرابها تكتال فيه فقامت و هي فارغة الجو الكناية في البيت الأخير و هي ظاهرة و منها قول أبي تمام
ما لي رأيت ترابكم بئس الثرى ما لي أرى أطوادكم تتهدم
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 39فكنى ببئس الثرى عن تنكر ذات بينهم و بتهدم الأطواد عن خفة حلومهم و طيش عقولهم. و منها قول أبي الطيبو شر ما قنصته راحتي قنص شهب البزاة سواء فيه و الرخم
كنى بذلك عن سيف الدولة و أنه يساوي بينه و بين غيره من أراذل الشعراء و خامليهم في الصلة و القرب. و قال الأقيشر لرجل ما أراد الشاعر بقوله
و لقد غدوت بمشرف يافوخه مثل الهراوة ماؤه يتفصدأرن يسيل من المراح لعابه و يكاد جلد إهابه يتقدد(6/25)
قال إنه يصف فرسا فقال حملك الله على مثله و هذان البيتان من لطيف الكناية و رشيقها و إنما عنى العضو. و قريب من هذه الكناية قول سعيد بن عبد الرحمن بن حسان و هو غلام يختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب ولد هشام بن عبد الملك و قد جمشه عبد الصمد فأغضبه فدخل إلى هشام فقال له
إنه و الله لو لا أنت لم ينج مني سالما عبد الصمد
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 40فقال هشام و لم ذلك قالإنه قد رام مني خطة لم يرمها قبله مني أحد
قال هشام و ما هي ويحك قال
رام جهلا بي و جهلا بأبي يدخل الأفعى إلى بيت الأسد
فضحك هشام و قال لو ضربته لم أنكر عليك. و من هذا الباب قول أبي نواس
إذا ما كنت جار أبي حسين فنم و يداك في طرف السلاح فإن له نساء سارقات إذا ما بتن أطراف الرماح سرقن و قد نزلت عليه عضوي فلم أظفر به حتى الصباح فجاء و قد تخدش جانباه يئن إلى من ألم الجرو الكناية في قوله أطراف الرماح و في قوله في طرف السلاح. و من الكناية الحسنة قول الفرزدق يرثي امرأته و قد ماتت بجمع
و جفن سلاح قد رزئت فلم أنح عليه و لم أبعث عليه البواكياو في جوفه من دارم ذو حفيظة لو أن المنايا أخطأته لياليا
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 41أخذه الرضي رحمه الله تعالى فقال يرثي امرأةإن لم تكن نصلا فغمد نصول غالته أحداث الزمان بغول أو لم تكن بأبي شبول ضيغم تدمى أظافره فأم شبولو من الكنايات ما يروى أن رجلا من خواص كسرى أحب الملك امرأته فكان يختلف إليها سرا و تختلف إليه فعلم بذلك فهجرها و ترك فراشها فأخبرت كسرى فقال له يوما بلغني أن لك عينا عذبة و أنك لا تشرب منها فقال بلغني أيها الملك أن الأسد يردها فخفته فتركتها له فاستحسن ذلك منه و وصله. و من الكنايات الحسنة قول حاتم
و ما تشتكيني جارتي غير أنني إذا غاب عنها بعلها لا أزورهاسيبلغها خيري و يرجع بعلها إليها و لم يسبل على ستورها
فكنى بإسبال الستر عن الفعل لأنه يقع عنده غالبا. فأما(6/26)
قول عمر من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب عليه المهر
فيمكن أن يكنى بذلك عن الجماع نفسه و يمكن أن يكنى به عن الخلوة فقط و هو مذهب أبي حنيفة و هو الظاهر من اللفظ لأمرين أحدهما قوله أغلق بابا فإنه لو أراد الكناية لم يحسن الترديد بأو و ثانيهما أنه قد كان مقررا عندهم أن الجماع نفسه يوجب كمال المهر فلم يكن به حاجة إلى ذكر ذلك. و يشبه قول حاتم في الكناية المقدم ذكرها قول بشار بن بشر شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 4و إني لعف عن زيارة جارتي و إني لمشنوء إلى اغتيابهاو لم أك طلابا أحاديث سرها و لا عالما من أي حوك ثيابهاإذا غاب عنها بعلها لم أكن لها زءورا و لم تنبح علي كلابها
و قال الأخطل في ضد ذلك يهجو رجلا و يرميه بالزنا
سبنتى يظل الكلب يمضغ ثوبه له في ديار الغانيات طريق
السبنتى النمر يريد أنه جري ء وقح و أن الكلب لأنسه به و كثرة اختلافه إلى جاراته يعرفه و يمضغ ثوبه يطلب ما يطعمه و العفيف ينكره الكلب و لا يأنس به ثم أكد ذلك بأنه قد صار له بكثرة تردده إلى ديار النساء طريق معروف. و من جيد الكناية عن العفة قول عقيل بن علفة امري
و لست بسائل جارات بيتي أ غياب رجالك أم شهود
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 43و لا ملق لذي الودعات سوطي ألاعبه و ريبته أريو من جيد ذلك و مختاره قول مسكين الدارمي
ناري و نار الجار واحدة و إليه قبلي تنزل القدرما ضر جارا لي أجاوره ألا يكون لبابة سترأعمى إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر
و العرب تكني عن الفرج بالإزار فتقول هو عفيف الإزار و بالذيل فتقول هو طاهر الذيل و إنما كنوا بهما لأن الذيل و الإزار لا بد من رفعهما عند الفعل و قد كنوا بالإزار عن الزوجة في قول الشاعر
أ لا أبلغ أبا بشر رسولا فدا لك من أخي ثقة إزاري(6/27)
يريد به زوجتي أو كنى بالإزار هاهنا عن نفسه. و قال زهير شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 4الحافظون ذمام عهدهم و الطيبون معاقد الأزرالستر دون الفاحشات و لا يلقاك دون الخير من ستر
و يقولون في الكناية عن العفيف ما وضعت مومسة عنده قناعها و لا رفع عن مومسة ذيلا. و قد أحسن ابن طباطبا في قوله
فطربت طربة فاسق متهتك و عففت عفة ناسك متحرج الله يعلم كيف كانت عفتي ما بين خلخال هناك و دملجو من الكناية عن العفة قول ابن ميادة
و ما نلت منها محرما غير أنني أقبل بساما من الثغر أفلجاو ألثم فاها آخذا بقرونها و أترك حاجات النفوس تحرجا
فكنى عن الفعل نفسه بحاجات النفوس كما كنى أبو نواس عنه بذلك العمل في قوله
مر بنا و العيون ترمقه تجرح منه مواضع القبل
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 45أفرغ في قالب الجمال فما يصلح إلا لذلك العمو كما كنى عنه ابن المعتز بقوله
و زارني في ظلام الليل مستترا يستعجل الخطو من خوف و من حذرو لاح ضوء هلال كاد يفضحه مثل القلامة قد قصت من الظفرفقمت أفرش خدي في الطريق له ذلا و أسحب أذيالي على الأثرفكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا و لا تسأل عن الخبر
و مما تطيروا من ذكره فكنوا عنه قولهم مات فإنهم عبروا عنه بعبارات مختلفة داخلة في باب الكناية نحو قولهم لعق إصبعه و قالوا اصفرت أنامله لأن اصفرار الأنامل من صفات الموتى قال الشاعر
فقرباني بأبي أنتما من وطني قبل اصفرار البنان و قبل منعاي إلى نسوة منزلها حران و الرقتانو قال لبيد
و كل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفر منها الأنامل
يعني الموت. و يقولون في الكناية عنه صك لفلان على أبي يحيى و أبو يحيى كنية الموت كني عنه بضده كما كنوا عن الأسود بالأبيض و قال الخوارزمي
سريعة موت العاشقين كأنما يغار عليهم من هواها أبو يحيى
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 46و كنى رسول الله ص عنه بهاذم اللذات فقال أكثروا من ذكر هاذم اللذات
و قال أبو العتاهية(6/28)
رأيت المنايا قسمت بين أنفس و نفسي سيأتي بينهن نصيبهافيا هاذم اللذات ما منك مهرب تحاذر نفسي منك ما سيصيبها
و قالوا حلقت به العنقاء و حلقت به عنقاء مغرب قال
فلو لا دفاعي اليوم عنك لحلقت بشلوك بين القوم عنقاء مغرب
و قالوا فيه زل الشراك عن قدمه قال
لا يسلمون العداة جارهم حتى يزل الشراك عن قدمه
أي حتى يموت فيستغني عن لبس النعل. فأما قولهم زلت نعله فيكنى به تارة عن غلطه و خطئه و تارة عن سوء حاله و اختلال أمره بالفقر و هذا المعنى الأخير أراده الشاعر بقوله
سأشكر عمرا ما تراخت منيتي أيادي لم تمنن و إن هي جلت
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 47فتى غير محجوب الغنى عن صديقه و لا مظهر الشكوى إذا النعل زلت رأى خلتي من حيث يخفى مكانها فكانت قذى عينيه حتى تجو يقولون فيه شالت نعامته قال
يا ليت أمي قد شالت نعامتها أيما إلى جنة أيما إلى نارليست بشبعى و لو أوردتها هجرا و لا بريا و لو حلت بذي قار
أي لا يشبعها كثرة التمر و لو نزلت هجر و هجر كثيرة النخل و لا تروى و لو نزلت ذا قار و هو موضع كثير الماء. قال ابن دريد و النعامة خط باطن القدم في هذه الكناية. و يقال أيضا للقوم قد تفرقوا بجلاء عن منازلهم شالت نعامتهم و ذلك لأن النعامة خفيفة الطيران عن وجه الأرض كأنهم خفوا عن منزلهم. و قال ابن السكيت يقال لمن يغضب ثم يسكن شالت نعامته ثم وقعت و قالوا أيضا في الكناية عن الموت مضى لسبيله و استأثر الله به و نقله إلى جواره و دعي فأجاب و قضى نحبه و النحب النذر كأنهم رأوا أن الموت لما كان حتما في الأعناق كان نذرا. و قالوا في الدعاء عليه اقتضاه الله بذنبه إشارة إلى هذا و قالوا ضحا ظله و معناه صار ظله شمسا و إذا صار الظل شمسا فقد عدم صاحبه. و يقولون أيضا خلى فلان مكانه و أنشد ثعلب للعتبي في السري بن عبد الله(6/29)