و كانت فزارة تعير بإتيان الإبل و عيرت أيضا بأكل جردان الحمار لأن رجلا منهم كان في سفر فجاع فاستطعم قوما فدفعوا إليه جردان الحمار فشواه و أكله فأكثرت الشعراء ذكرهم بذلك و قال الفرزدق
جهز إذا كنت مرتادا و منتجعا إلى فزارة عيرا تحمل الكمراإن الفزاري لو يعمى فيطعمه أير الحمار طبيب أبرأ البصراإن الفزاري لا يشفيه من قرم أطايب العير حتى ينهش الذكرا
و في كتب الأمثال أنه اصطحب ثلاثة فزاري و تغلبي و مري و كان اسم التغلبي مرقمة فصادوا حمارا و غاب عنهما الفزاري لحاجة فقالوا نخبأ له جردانه نضحك منه و أكلوا سائره فلما جاء دفعا إليه الجردان و قالا هذا نصيبك فنهسه فإذا هو صلب فعرف أنهم عرضوا له بما تعاب به فزارة فاستل سيفه و قال لتأكلانه و دفعه إلى مرقمة فأبى أن يأكله فضربه فقتله فقال المري طاح مرقمة قال و أنت إن لم تلقمه فأكله. و ذكر أبو عبيدة أن إنسانا قال لمالك بن أسماء بن خارجة الفزاري اقض ديني أيها الأمير فإن علي دينا قال ما لك عندي إلا ما ضرب به الحمار بطنه فقال له عبيد بن أبي محجن شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 33بارك الله لكم يا بني فزارة في أير الحمار إن جعتم أكلتموه و إن أصابكم غرم قضيتموه به. و يحكى أن بني فزارة و بني هلال بن عامر بن صعصعة تنافروا إلى أنس بن مدرك الخثعمي و تراضوا به فقالت بنو هلال أكلتما بني فزارة أير الحمار فقالت بنو فزارة و أنتم مدرتم الحوض بسلحكم فقضى أنس لبني فزارة على بني هلال فأخذ الفزاريون منهم مائة بعير كانوا تخاطروا عليها و في مادر يقول الشاعر
لقد جللت خزيا هلال بن عامر بني عامر طرا بسلحة مادرفأف لكم لا تذكروا الفخر بعدها بني عامر أنتم شرار المعاشر(6/20)
و ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل أن قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله و آلات لم يسمع مثلها فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليه و يعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم فأمر بدار ففرشت و في صحنها قدور يرتقى إليها بالسلاليم فإذا بالحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل و الناس جلوس على مراتبهم و الحضين شيخ كبير فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة ائذن لي في معاتبته قال لا ترده فإنه خبيث الجواب فأبى عبد الله إلا أن يأذن له و كان عبد الله يضعف و كان قد تسور حائطا إلى امرأة قبل ذلك فأقبل على الحضين فقال أ من الباب دخلت يا أبا ساسان قال أجل أسن عمك عن تسور شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 34الحيطان قال أ رأيت هذه القدور قال هي أعظم من ألا ترى قال ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها قال أجل و لا عيلان و لو رآها سمي شبعاو لم يسم عيلان فقال عبد الله أ تعرف يا أبا ساسان الذي يقول
عزلنا و أمرنا و بكر بن وائل تجر خصاها تبتغي من تحالف
فقال أعرفه و أعرف الذي يقول
فأدى الغرم من نادى مشيرا و من كانت له أسرى كلاب و خيبة من يخيب على غني و باهلة بن أعصر و الربابفقال أ فتعرف الذي يقول
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع و قد عرقت أفواه بكر بن وائل
قال نعم و أعرف الذي يقول
قوم قتيبة أمهم و أبوهم لو لا قتيبة أصبحوا في مجهل(6/21)
قال أما الشعر فأراك ترويه فهل تقرأ من القرآن شيئا قال نعم أقرأ الأكثر الأطيب هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 35فأغضبه فقال و الله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه و هي حبلى من غه قال فما تحرك الشيخ عن هيأته الأولى بل قال على رسله و ما يكون تلد غلاما على فراشي فيقال فلان ابن الحضين كما يقال عبد الله بن مسلم فأقبل قتيبة على عبد الله و قال له لا يبعد الله غيرك. و غرضنا من هذه الحكاية الأدبية المستحسنة قول الحضين تعريضا بفاحشة عبد الله أجل أسن عمك عن تسور الحيطان. و يحكى أن أبا العيناء أهدى إلى أبي علي البصير و قد ولد له مولود حجرا يذهب في ذلك إلى
قوله ع الولد للفراش و للعاهر الحجر(6/22)
فاستخرج أبو علي ذلك بفطنته و ذكائه ثم ولد بعد أيام لأبي العيناء مولود فقال له في أي وقت ولد لك قال وقت السحر فقال اطرد قياسه و خرج في الوقت الذي يخرج فيه أمثاله يعنى السؤال يعرض بأن أبا العيناء شحاذ و أن ولده خرج يشبهه. و من التعريضات و الرموز بالفعل دون القول ما ذكره مؤرج بن عمرو السدوسي في كتاب الأمثال أن الأحوص بن جعفر الكلابي أتاه آت من قومه فقال أن رجلا لا نعرفه جاءنا فلما دنا منا حيث نراه نزل عن راحلته فعلق على شجرة وطبا من لبن و وضع في بعض أغصانها حنظلة و وضع صرة من تراب و حزمة من شوك ثم أثار راحلته فاستوى عليها و ذهب و كان أيام حرب تميم و قيس عيلان فنظر الأحوص في ذلك فعي به فقال أرسلوا إلى قيس بن زهير فأتوا قيسا فجاءوا به إليه فقال له أ لم تك أخبرتني أنه لا يرد شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 36عليك أمر إلا عرفت ما فيه ما لم تر نواصي الخيل قال ما خبرك فأمه فقال قد بين الصبح لذي عينين هذا رجل قد أخذت عليه العهود ألا يكلمكم و لا يرسل إليكم و أنه قد جاء فأنذركم أما الحنظلة فإنه يخبركم أنه قد أتاكم بنو حنظلة و أما الصرة من التراب فإنه يزعم أنهم عدد كثير و أما الشوك فيخبركم أن لهم شوكة و أما الوطب فإنه يدلكم على قرب القوم و بعدهم فذوقوه فإن كان حليبا فالقوم قريب و إن كان قارصا فالقوم بعيد و إن كان المسيخ لا حلوا و لا حامضا فالقوم لا قريب و لا بعيد فقاموا إلى الوطب فوجدوه حليبا فبادروا الاستعداد و غشيتهم الخيل فوجدتهم مستعدين. و من الكنايات بل الرموز الدقيقة ما حكي أن قتيبة بن مسلم دخل على الحجاج و بين يديه كتاب قد ورد إليه من عبد الملك و هو يقرؤه و لا يعلم معناه و هو مفكر فقال ما الذي أحزن الأمير قال كتاب ورد من أمير المؤمنين لا أعلم معناه فقال إن رأى الأمير إعلامي به فناوله إياه و فيه أما بعد فإنك سالم و السلام. فقال قتيبة ما لي إن استخرجت لك ما أراد به قال ولاية خراسان قال(6/23)
إنه ما يسرك أيها الأمير و يقر عينك إنما أراد قول الشاعر
يديرونني عن سالم و أديرهم و جلدة بين العين و الأنف سالم
أي أنت عندي مثل سالم عند هذا الشاعر فولاه خراسان. حكى الجاحظ في كتاب البيان و التبيين قال خطب الوليد بن عبد الملك فقال شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 37أمير المؤمنين عبد الملك قال إن الحجاج جلدة ما بين عيني و أنفي ألا و إني أقول إن الحجاج جلدة وجهي كله. و علىكر هذا البيت حكي أن رجلا كان يسقي جلساءه شرابا صرفا غير ممزوج و كان يحتاج إلى المزج لقوته فجعل يغني لهم
يديرونني عن سالم و أديرهم و جلدة بين العين و الأنف سالم
فقال له واحد منهم يا أبا فلان لو نقلت ما من غنائك إلى شرابك لصلح غناؤنا و نبيذنا جميعا. و يشبه حكاية قتيبة و الحجاج كتاب عبد الملك إلى الحجاج جوابا عن كتاب كتبه إليه يغلظ فيه أمر الخوارج و يذكر فيه حال قطري و غيره و شدة شوكتهم فكتب إليه عبد الملك أوصيك بما أوصى به البكري زيدا و السلام. فلم يفهم الحجاج ما أراد عبد الملك فاستعلم ذلك من كثير من العلماء بأخبار العرب فلم يعلموه فقال من جاءني بتفسيره فله عشرة آلاف درهم و ورد رجل من أهل الحجاز يتظلم من بعض العمال فقال له قائل أ تعلم ما أوصى به البكري زيدا قال نعم أعلمه فقيل له فأت الأمير فأخبره و لك عشرة آلاف درهم فدخل عليه فسأله فقال نعم أيها الأمير إنه يعنى قوله(6/24)