إذا ما مات ميت من تميم فسرك أن يعيش فجي ء بزادبخبز أو بتمر أو بسمن أو الشي ء الملفف في البجادتراه يطوف في الآفاق حرصا ليأكل رأس لقمان بن عاو أراد الشاعر وطب اللبن فقال الأحنف هو السخينة يا أمير المؤمنين لأن قريشا كانت تعير بأكل السخينة قبل الإسلام لأن أكثر زمانها كان زمان قحط و السخينة ما يسخن بالنار و يذر عليه دقيق و غلب ذلك على قريش حتى سميت سخينة قال حسان
زعمت سخينة أن ستغلب ربها و ليغلبن مغالب الغلاب
فعبر كل واحد من معاوية و الأحنف عما أراده بلفظ غير مستهجن و لا مستقبح و علم كل واحد منهما مراد صاحبه و لم يفهم الحاضرون ما دار بينهما و هذا من باب التعريض و هو قريب من الكناية. و من كنايات الكتاب العزيز أيضا قوله تعالى وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها كنى بذلك عن مناكح النساء. و منها قوله تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ كنى عن مواقع النسل بمواقع الحرث. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 17و مما ورد في الأخبار النبوية في هذا الباب ابر الذي فيه أن المرأة قالت للرجل القاعد منها مقعد القابلة لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فقام عنها و تركها. و قد أخذ الصاحب بن عباد هذه اللفظة فقال لأبي العلاء الأسدي الأصفهاني و قد دخل بزوجة له بكر
قلبي على الجمرة يا أبا العلا فهل فتحت الموضع المقفلاو هل فضضت الكيس عن ختمه و هل كحلت الناظر الأحولا
و أنشد الفرزدق في سليمان بن عبد الملك شعرا قال فيه
دفعن إلي لم يطمثن قبلي و هن أصح من بيض النعام فبتن بجانبي مصرعات و بت أفض أغلاق الختامفاستنكر سليمان ذلك و كان غيورا جدا و قال له قد أقررت بالزنا فلأجلدنك فقال يا أمير المؤمنين إني شاعر و إن الله يقول في الشعراء وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ و قد قلت ما لم أفعل قال سليمان نجوت بها.(6/10)
و من الأخبار النبوية أيضا قوله ع في الشهادة على الزنا حتى تشاهد الميل في المكحلة
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 18و منها قوله ع للمرأة التي استفتته في الذي استخلت له و لم يستطع جماعها لا حتى تذوقي عسيلته و يذوق عسيلتكو منها قول المرأة التي شكت إلى عائشة زوجها أنه يطمح بصره إلى غيرها إني عزمت على أن أقيد الجمل إشارة إلى ربطه.
و منها قول عمر يا رسول الله هلكت قال و ما أهلكك قال حولت رحلي فقال ع أقبل و أدبر و اتق الحيضة
ففهم ص ما أراد. و رأى عبد الله بن سلام على إنسان ثوبا معصفرا فقال لو أن ثوبك في تنور أهلك لكان خيرا لك فذهب الرجل فأحرق ثوبه في تنور أهله و ظن أنه أراد الظاهر و لم يرد ابن سلام ذلك و إنما أراد لو صرف ثمنه في دقيق يخبزه في تنور أهله.
و من ذلك قوله ص إياكم و خضراء الدمن
و الدمن جمع دمنة و هي المزبلة فيها البعر تنبت نباتا أخضر و كنى بذلك عن المرأة الحسناء في منبت السوء. و من ذلك قولهم إياك و عقيلة الملح لأن الدرة تكون في الماء الملح و مرادهم النهي عن المرأة الحسناء و أهلها أهل سوء. و من ذلك قولهم لبس له جلد النمر و قلب له ظهر المجن و قال أبو نواس
لا أذود الطير عن شجر قد بلوت المر من ثمره(6/11)
شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 19و قد فسر قوم قوله تعالى وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً فقالوا أراد و إذا عبروا عن اللفظ بما يقبح ذكره كنوا عنه فسمى التعبير عن الشي ء مرورا به و سمى الكناية عنه كرما. و من ذلك أن بنت أعرابية صرخت و قالت لسعتني ارب فقالت أمها أين فقالت موضع لا يضع الراقي فيه أنفه كنت بذلك عن السوأة. و من هذا الباب قوله سبحانه مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ قال كثير من المفسرين هو كناية عن الغائط لأنه يكون من الطعام فكني عنه إذا هو منه مسبب كما كنوا عن السمة بالنار فقالوا ما نار تلك أي ما سمتها و منه قول الشاعر
قد وسموا آبالهم بالنار و النار قد تشفي من الأوار
و هذا من أبيات المعاني يقول هم أهل عز و منعة فسقى راعيهم إبلهم بالسمات التي على الإبل و علم المزاحمون له في الماء أنه لا طاقة لهم بمنازعتهم عليه لعزهم فكانت السمات سببا لسقيها و الأوار العطش فكنى سبحانه بقوله يَأْكُلانِ الطَّعامَ عن إتيان الغائط لما كان أكل الطعام سببا له كما كنى الشاعر بالنار عن السمة لما كانت النار سبب السمة. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 20و من هذا الباب قوله سبحانه وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ كنى بالإفضاء عن الجماع.و من الأحاديث النبوية من كشف قناع امرأة وجب عليه مهرها
كنى عن الدخول بها بكشف القناع لأنه يكشف في تلك الحالة غالبا. و العرب تقول في الكناية عن العفة ما وضعت مومسة عنده قناعا.
و من حديث عائشة كان رسول الله ص يصيب من رءوس نسائه و هو صائم
كنت بذلك عن القبلة. و من ذلك قوله تعالى هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ كنى بذلك عن الجماع و المخالطة. و قال النابغة الجعدي
إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت فكانت عليه لباسا(6/12)
و قد كنت العرب عن المرأة بالريحان و بالسرحة قال ابن الرقيات
لا أشم الريحان إلا بعيني كرما إنما تشم الكلاب
أي أقنع من النساء بالنظر و لا أرتكب منهن محرما. و قال حميد بن ثور الهلالي
أبى الله إلا أن سرحة مالك على كل أفنان العضاه تروق فيا طيب رياها و برد ظلالها إذا حان من حامي النهار وديق شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 21و هل أنا إن عللت نفسي بسرحة من السرح مسدود علي طريو السرحة الشجرة. و قال أعرابي و كنى عن امرأتين
أيا نخلتي أود إذا كان فيكما جنى فانظرا من تطعمان جناكماو يا نخلتي أود إذا هبت الصبا و أمسيت مقرورا ذكرت ذراكما
و من الأخبار النبوية قوله ع من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره
أراد النهي عن نكاح الحبائل لأنه إذا وطئها فقد سقى ماءه زرع غيره.
و قال ص لخوات بن جبير ما فعل جملك يا خوات يمازحه فقال قيده الإسلام يا رسول الله
لأن خواتا في الجاهلية كان يغشى البيوت و يقول شرد جملي و أنا أطلبه و إنما يطلب النساء و الخلوة بهن و خوات هذا هو صاحب ذات النحيين. و من كنايات القرآن العزيز قوله تعالى وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ كنى بذلك عن الزنا لأن الرجل يكون في تلك الحال بين يدي المرأة و رجليها. و منه في الحديث إذا قعد الرجل بين شعبها الأربع. شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 22و قد فسر قوم قوله تعالى وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ عن النميمة و العرب تقول لمن ينم و يشي يوقد بين الناس الحطبلرطب. و قال الشاعر يذكر امرأة
من البيض لم تصطد على خيل لامة و لم تمش بين الناس بالحطب الرطب
أي لم تؤخذ على أمر تلام عليه و لم تفسد بين الحي بالكذب و النميمة. و مما ورد نظير ممازحة معاوية و الأحنف من التعريضات أن أبا غسان المسمعي مر بأبي غفار السدوسي فقال يا غفار ما فعل الدرهمان فقال لحقا بالدرهم أراد بالدرهمين قول الأخطل(6/13)
فإن تبخل سدوس بدرهميها فإن الريح طيبة قبول
و أراد الآخر قول بشار
و في جحدر لؤم و في آل مسمع صلاح و لكن درهم القوم كوكب
و كان محمد بن عقال المجاشعي عند يزيد بن مزيد الشيباني و عنده سيوف تعرض عليه فدفع سيفا منها إلى يد محمد فقال كيف ترى هذا السيف فقال نحن أبصر بالتمر منا بالسيوف أراد يزيد قول جرير في الفرزدق
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ضربت و لم تضرب بسيف ابن ظالم ضربت به عند الإمام فأرعشت يداك و قالوا محدث غير صارم شرح نهج البلاغة ج : 5 ص : 23و أراد محمد قول مروان بن أبي حفصةلقد أفسدت أسنان بكر بن وائل من التمر ما لو أصلحته لمارها
و قال محمد بن عمير بن عطاء التميمي لشريك النميري و على يده صقر ليس في الجوارح أحب إلي من البازي فقال شريك إذا كان يصيد القطا أراد محمد قول جرير
أنا البازي المطل على نمير أتيح من السماء لها انصبابا
و أراد شريك قول الطرماح
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا و لو سلكت سبل المكارم ضلت
و دخل عبد الله بن ثعلبة المحاربي على عبد الملك بن يزيد الهلالي و هو يومئذ والي أرمينية فقال له ما ذا لقينا الليلة من شيوخ محارب منعونا النوم بضوضائهم و لغطهم فقال عبد الله بن ثعلبة إنهم أصلح الله الأمير أضلوا الليلة برقعا فكانوا يطلبونه أراد عبد الملك قول الشاعر
تكش بلا شي ء شيوخ محارب و ما خلتها كانت تريش و لا تبري ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت فدل عليها صوتها حية البحو أراد عبد الله قول القائل
لكل هلالي من اللؤم برقع و لابن يزيد برقع و جلال(6/14)