شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 265و كان عتاب حينئذ قد أخرج معه خمسين ألفا من المقاتلة و هددهم الحجاج إن هربوا كعادة أهل الكوفة و توعدهم و عرض شبيب أصحابه بالمدائن فكانوا ألف رجل فخطبهم و قال يا معشر المسلمين إن الله عز و جل كان ينصركم و أنتم مائة و مائتان و يوم فأنتم مئون و مئون ألا و إني مصل الظهر ثم سائر بكم إن شاء الله. فصلى الظهر ثم نادى في الناس فتخلف عنه بعضهم. قال فروة بن لقيط فلما جاز ساباط و نزلنا معه قص علينا و ذكرنا بأيام الله و زهدنا في الدنيا و رغبنا في الآخرة ثم أذن مؤذنه فصلى بنا العصر ثم أقبل حتى أشرف على عتاب بن ورقاء فلما رأى جيش عتاب نزل من ساعته و أمر مؤذنه فأذن ثم تقدم فصلى بأصحابه صلاة المغرب و خرج عتاب بالناس كلهم فعبأهم و كان قد خندق على نفسه مذ يوم نزل. و جعل على ميمنته محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني قال له يا ابن أخي إنك شريف فاصبر و صابر فقال أما أنا فو الله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان. و قال لقبيصة بن والق التغلبي اكفني الميسرة فقال أنا شيخ كبير غايتي أن أثبت تحت رايتي أ ما تراني لا أستطيع القيام إلا أن أقام و أخي نعيم بن عليم ذو غناء فابعثه على الميسرة فبعثه عليها و بعث حنظلة بن الحارث الرياحي ابن عمه و شيخ شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 266أهل بيته على الرجالة و بعث معه ثلاثة صفوف صف فيه الرجالة و معهم السيوف و صف هم أصحاب الرماح و صف فيه المرامية. ثم سار عتاب بين الميمنة و الميسرة يمر بأهل راية راية فيحرض من تحتها على الصبر ون كلامه يومئذ إن أعظم الناس نصيبا من الجنة الشهداء و ليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي أ لا ترون عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه لا يرى ذلك إلا قربة لهم فهم شرار أهل الأرض و كلاب أهل النار فلم يجبه أحد فقال أين القصاص يقصون على الناس و يحرضونهم فلم يتكلم أحد فقال أين من يروي شعر عنترة فيحرك الناس فلم يجبه أحد و لا رد عليه(5/216)
كلمة فقال لا حول و لا قوة إلا بالله و الله لكأني بكم و قد تفرقتم عن عتاب و تركتموه تسفي في استه الريح ثم أقبل حتى جلس في القلب و معه زهرة بن حوية و عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. و أقبل شبيب في ستمائة و قد تخلف عنه من الناس أربعمائة فقال إنه لم يتخلف عني إلا من لا أحب أن أراه معي فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة و بعث المحلل بن وائل في مائتين إلى القلب و مضى هو في مائتين إلى الميمنة و ذلك بين المغرب و العشاء الآخرة حين أضاء القمر فناداهم لمن هذه الرايات قالوا رايات همدان. فقال رايات طالما نصرت الحق و طالما نصرت الباطل لها في كل نصيب أنا أبو المدلة اثبتوا إن شئتم ثم حمل عليهم و هم على مسناة أمام الخندق ففضهم و ثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق. فجاء شبيب فوقف عليه و قال لأصحابه مثل هذا قوله تعالى وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 267نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَثم حمل على الميسرة ففضها و صمد نحو القلب و عتاب جالس على طنفسة هو و زهرة بن حوية فغشيهم شبيب فانفض الناس عن عتاب و تركوه فقال عتاب يا زهرة هذا يوم كثر فيه العدد و قل فيه الغناء لهفي على خمسمائة فارس من وجوه الناس أ لا صابر لعدوه أ لا مواس بنفسه فمضى الناس على وجوههم فلما دنا منه شبيب وثب إليه في عصابة قليلة صبرت معه فقال له بعضهم إن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد هرب و انصفق معه ناس كثير فقال أما إنه قد فر قبل اليوم و ما رأيت مثل ذلك الفتى ما يبالي ما صنع ثم قاتلهم ساعة و هو يقول ما رأيت كاليوم قط موطنا لم أبل بمثله أقل ناصرا و لا أكثرها ربا خاذلا فرآه رجل من بني تغلب من أصحاب شبيب و كان أصاب دما في قومه و التحق بشبيب فقال إني لأظن هذا المتكلم عتاب بن ورقاء فحمل عليه فطعنه فوقع و قتل و وطئت الخيل زهرة بن حوية فأخذ يذبب بسيفه و هو شيخ(5/217)
كبير لا يستطيع أن ينهض فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله و انتهى إليه شبيب فوجده صريعا فعرفه فقال من قتل هذا قال الفضل أنا قتلته فقال شبيب هذا زهرة بن حوية أما و الله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك و عظم فيه غناؤك و لرب خيل للمشركين هزمتها و سرية لهم ذعرتها و مدينة لهم فتحتها ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين. و قتل يومئذ وجوه العرب من عسكر العراق في المعركة و استمكن شبيب من أهل العسكر فقال ارفعوا عنهم السيف و دعاهم إلى البيعة فبايعه الناس عامة من ساعتهم و احتوى على جميع ما في العسكر و بعث إلى أخيه و هو بالمدائن فأتاه فأقام بموضع المعركة يومين و دخل سفيان بن الأبرد الكلبي و حبيب بن عبد الرحمن فيمن معهما شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 268إلى الكوفة فشدوا ظهر الحجاج و استغنى بهم عن أهل العراق و وصلته أخبار عتاب و عسكره فصعد المنبر فقال يا أهل كوفة لا أعز الله من أراد بكم العز و لا نصر من أراد منكم النصر اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا و الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود و النصارى و لا يقاتلن معنا إلا من لم يشهد قتال عتاب بن ورقاء. و خرج شبيب يريد الكوفة فانتهى إلى سورا فقال لأصحابه أيكم يأتيني برأس عاملها فانتدب إليه قطين و قعنب و سويد و رجلان من أصحاب شبيب فكانوا خمسة و ساروا حتى انتهوا إلى دار الخراج و العمال فيها فقالوا أجيبوا الأمير فقال الناس أي أمير قالوا أمير قد خرج من قبل الحجاج يريد هذا الفاسق شبيبا فاغتر بذلك عامل سورا فخرج إليهم فلما خالطهم شهروا السيوف و حكموا و خبطوه بها حتى قتلوه و قبضوا ما وجدوا في دار الخراج من مال و لحقوا بشبيب. فلما رأى شبيب البدر قال أتيتمونا بفتنة المسلمين هلم يا غلام الحربة فخرق بها البدر و أمر أن تنخس الدواب التي كانت البدر عليها فمرت رائحة و المال يتناثر من البدر حتى وردت الصراة فقال إن كان(5/218)
بقي شي ء فاقذفوه في الماء. و قال سفيان بن الأبرد للحجاج ابعثني إلى شبيب أستقبله قبل أن يرد الكوفة فقال لا ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم و الكوفة في ظهرنا و أقبل شبيب حتى نزل حمام أعين و دعا الحجاج الحارث بن ماوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي فوجهه في ناس لم يكونوا شهدوا يوم عتاب فخرج في ألف رجل حتى انتهى إلى شبيب ليدفعه عن الكوفة فلما رآه شبيب حمل عليه فقتله و فل أصحابه فجاءوا حتى دخلوا
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 269الكوفة و بعث شبيب البطين في عشرة فوارس يرتادون له منزلا على شاطئ الفرات في دار الرزق فوجه الحجاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة فأخذوا بأفواه السكك فقاتلهم البطين فلم يقو عليهم فبعث إلى شبيب فأمده بفوارس من أصحابه فعقروا س حوشب و هزموه فنجا بنفسه و مضى البطين إلى دار الرزق في أصحابه و نزل شبيب بها و لم يوجه إليه الحجاج أحدا فابتنى مسجدا في أقصى السبخة و أقام ثلاثا لم يوجه إليه الحجاج أحدا و لا يخرج إليه من أهل الكوفة و لا من أهل الشام أحد و كانت امرأته غزالة نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيهما بالبقرة و آل عمران. فجاء شبيب مع امرأته حتى أوفت بنذرها في المسجد و أشير على الحجاج أن يخرج بنفسه إليه فقال لقتيبة بن مسلم إني خارج فاخرج أنت فارتد لي معسكرا فخرج و عاد فقال وجدت المدى سهلا فسر أيها الأمير على اسم الله و الطائر الميمون فخرج الحجاج بنفسه و مر على مكان فيه كناسة و أقذار فقال ألقوا لي هنا بساطا فقيل له إن الموضع قذر فقال ما تدعوني إليه أقذر الأرض تحته طيبة و السماء فوقه طيبة. و وقف هناك و أخرج مولى له يعرف بأبي الورد و عليه تجفاف و أحاط به غلمان كثير و قيل هذا الحجاج فحمل عليه شبيب فقتله و قال إن يكن الحجاج فقد أرحت الناس منه و دلف الحجاج نحوه حينئذ و على ميمنته مطر بن ناجية و على ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء و هو في زهاء أربعة آلاف فقيل(5/219)
له أيها الأمير لا نعرف شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 270شبيبا بمكانك فتنكر و أخفى مكانه و تشبه به مولى آخر للحجاج في هيئته و زيه فحمل عليه شبيب فضربه بالعمود فقتله و يقال إنه قال لما سقط أخ بالخاء المعجمة فقال شبيب قاتل الله ابن أم الحجاج اتقى الموت بالعبيد و ذلك أن العرب تقول عندلتأوه أح بالحاء المهملة. ثم تشبه بالحجاج أعين صاحب حمام أعين و لبس لبسته فحمل عليه شبيب فقتله فقال الحجاج علي بالبغل لأركبه فأتي ببغل محجل و قيل أيها الأمير أصلحك الله إن الأعاجم كانت تتطير أن تركب مثل هذا البغل في مثل هذا اليوم فقال أدنوه مني فإنه أغر محجل و هذا يوم أغر محجل فركبه ثم سار في الناس يمينا و شمالا ثم قال اطرحوا لي عباءة فطرحت له فنزل فجلس عليها ثم قال ائتوني بكرسي فأتي به فقام فجلس عليه ثم نادى أهل الشام فقال يا أهل الشام يا أهل السمع و الطاعة لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم غضوا الأبصار و اجثوا على الركب و استقبلوا القوم بأطراف الأسنة فجثوا على الركب و كأنهم حرة سوداء. و منذ هذا الوقت ركدت ريح شبيب و أذن الله تعالى في إدبار أمره و انقضاء أيامه فأقبل حتى إذا دنا من أهل الشام عبى أصحابه ثلاثة كراديس كتيبة معه و كتيبة مع سويد بن سليم و كتيبة مع المحلل بن وائل و قال لسويد احمل عليهم في خيلك فحمل عليهم فثبتوا له حتى إذا غشي أطراف أسنتهم وثبوا في وجهه فقاتلهم طويلا فصبروا له ثم طاعنوه قدما قدما حتى ألحقوه بأصحابه. فلما رأى شبيب صبرهم نادى يا سويد احمل في خيلك في هذه الرايات الأخرى لعلك تزيل أهلها فتأتي الحجاج من ورائه و نحمل نحن عليه من أمامه فحمل سويد على تلك الرايات و هي بين جدران الكوفة فرمى بالحجارة من سطوح البيوت و من أفواه السكك فانصرف و لم يظفروا.(5/220)