شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 253فرس أغر كميت و خيله واقفة دونه و كل من جاء ليبايعه ينزع سيفه عن عاتقه و يؤخذ سلاحه ثم يدنو من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين ثم يبايع فإنا كذلك إذ أضاء الفجر و محمد بن موسى بن طلحة في أقصى العسكر مع أصحابه و كان الحجاج قد جعموقفه آخر الناس و زائدة بن قدامة بين يديه و مقام محمد بن موسى مقام الأمير على الجماعة كلها فأمر محمد مؤذنه فأذن فلما سمع شبيب الأذان قال ما هذا قيل هذا ابن طلحة لم يبرح قال ظننت أن حمقه و خيلاءه سيحملانه على هذا نحوا هؤلاء عنا و انزلوا بنا فلنصل فنزل و أذن هو ثم استقدم فصلى بأصحابه و قرأ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ و أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ثم سلم و ركب و أرسل إلى محمد بن موسى بن طلحة إنك امرؤ مخدوع قد اتقى بك الحجاج المنية و أنت لي جار بالكوفة و لك حق فانطلق لما أمرت به و لك الله ألا أسوءك فأبى محاربته فأعاد عليه الرسول فأبى إلا قتاله فقال له شبيب كأني بأصحابك لو التقت حلقتا البطان قد أسلموك و صرعت مصرع أمثالك فأطعني و انصرف شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 254لشأنك فإني أنفس بك عن القتل فأبى و خرج بنفسه و دعا إلى البراز فبرز له البطين ثم قب بن سويد و هو يأبى إلا شبيبا فقالوا لشبيب إنه قد رغب عنا إليك قال فما ظنكم بمن يرغب عن الأشراف ثم برز له و قال له أنشدك الله يا محمد في دمك فإن لك جوارا فأبى إلا قتاله فحمل عليه بعموده الحديد و كان فيه اثنا عشر رطلا فهشم رأسه و بيضة كانت عليه فقتله و نزل إليه فكفنه و دفنه و تتبع ما غنم الخوارج من عسكره فبعث به إلى أهله و اعتذر إلى أصحابه و قال هو جاري بالكوفة و لي أن أهب ما غنمت فقال له أصحابه ما دون الكوفة الآن أحد يمنعك فنظر فإذا أصحابه قد فشا فيهم الجراح فقال ليس عليكم أكثر مما قد فعلتم. و خرج بهم على نفر ثم خرج بهم نحو بغداد يطلب خانيجار و بلغ الحجاج أن شبيبا قد أخذ(5/206)
نحو نفر فظن أنه يريد المدائن و هي باب الكوفة و من أخذ المدائن كان ما في يديه من أرض الكوفة أكثر فهال ذلك الحجاج و بعث إلى عثمان بن قطن فسرحه إلى المدائن و ولاه منبرها و الصلاة و معونة جوخى كلها و خراج الأستان فجاء مسرعا حتى نزل المدائن و عزل الحجاج ابن أبي عصيفير عن المدائن و كان الجزل مقيما بها يداوي جراحاته و كان ابن أبي عصيفير يعوده و يكرمه و يلطفه فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده و لا يلطفه بشي ء فكان الجزل يقول اللهم زد ابن أبي عصيفر فضلا و كرما و زد عثمان بن قطن ضيقا و بخلا. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 255ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال له انتخب الناس فأخرج ستمائة من قومه من كندة و أخرج من سائر الناس ستة آلاف و استحثه الحجاج على الشخوص فخرج بعسكره بدير عبد الرحمن ما استتموا هناك كتب إليهم الحجاج كتابا قرئ عليهم. أما بعد فقد اعتدتم عادة الأذلاء و وليتم الدبر يوم الزحف دأب الكافرين و قد صفحت عنكم مرة بعد مرة و تارة بعد أخرى و إني أقسم بالله قسما صادقا لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعا يكون أشد عليكم من هذا العدو الذي تنهزمون منه في بطون الأودية و الشعاب و تستترون منه بأثناء الأنهار و الواد الجبال فليخف من كان له معقول على نفسه و لا يجعل عليها سبيلا فقد أعذر من أنذر و السلام. و ارتحل عبد الرحمن بالناس حتى مر بالمدائن فنزل بها يوما ليشتري أصحابه منها حوائجهم ثم نادى في الناس بالرحيل و أقبل حتى دخل على عثمان بن قطن مودعا ثم أتى الجزل عائدا فسأله عن جراحته و حادثه فقال الجزل يا ابن عم إنك تسير إلى فرسان العرب و أبناء الحرب و أحلاس الخيل و الله لكأنما خلقوا من ضلوعها ثم ربوا على ظهورها ثم هم أسد الأجم الفارس منهم أشد من مائة إن لم يبدأ به(5/207)
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 256بدأ هو و إن هجهج أقدم و إني قد قاتلتهم و بلوتهم فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني و كان لهم الفضل علي و إذا خندقت أو قاتلت في مضيق نلت منهم ما أحب و كانت لي عليهم فلا تلقهم و أنت تستطيع إلا و أنت في تعبية أو خندق ثم ودعه و قال له ه فرسي الفسيفساء خذها فيها لا تجارى فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب فلما دنا منه ارتفع شبيب عنه إلى دقوقاء و شهرزور فخرج عبد الرحمن في طلبه حتى إذا كان على تخوم تلك الأرض أقام و قال إنما هو في أرض الموصل فليقاتل أمير الموصل و أهلها عن بلادهم أو فليدعوا. و بلغ ذلك الحجاج فكتب إليه أما بعد فاطلب شبيبا و اسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه عن الأرض فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين و الجند جنده و السلام. فلما قرأ عبد الرحمن كتاب الحجاج خرج في طلب شبيب فكان شبيب يدعه حتى إذا دنا منه ليبيته فيجده قد خندق و حذر فيمضي و يتركه فيتبعه عبد الرحمن فإذا بلغ شبيبا أنه قد تحمل و سار يطلبه كر في الخيل نحوه فإذا انتهى إليه وجده قد صف خيله و رجالته المرامية فلا يصيب له غرة و لا غفلة فيمضي و يدعه. و لما رأى شبيب أنه لا يصيب غرته و لا يصل إليه صار يخرج كلما دنا منه عبد الرحمن حتى ينزل على مسيرة عشرين فرسخا ثم يقيم في أرض غليظة وعرة فيجي ء عبد الرحمن في ثقله و خيله حتى إذا دنا من شبيب ارتحل فسار عشرين أو خمسة عشر فرسخا فنزل منزلا غليظا خشنا ثم يقيم حتى يبلغ عبد الرحمن ذلك المنزل ثم يرتحل فعذب العسكر و شق عليهم و أحفى دوبهم و لقوا منه كل بلاء. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 257فلم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى صار إلى خانقين و جلولاء ثم أقبل على تامرا فصار إلى البت و نزل على تخوم الموصل ليس بينه و بين الكوفة إلا نهر حولايا و جاء عبد الرحمن حتى نزل بشرقي حولايا و هم في راذان الأعلمن أرض جوخى و نزل في عواقيل من النهر و نزلها عبد الرحمن حيث نزلها و(5/208)
هي تعجبه يرى أنها مثل الخندق الحصين. فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن أن هذه الأيام أيام عيد لنا و لكم فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضي هذه الأيام فعلتم فأجابه عبد الرحمن إلى ذلك و لم يكن شي ء أحبإلى عبد الرحمن من المطاولة و الموادعة فكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد حفر جوخى كلها عليه خندقا واحدا و خلى شبيبا و كسر خراجها فهو يأكل أهلها و السلام. فكتب إليه الحجاج قد فهمت ما ذكرت و قد لعمري فعل عبد الرحمن فسر إلى الناس فأنت أميرهم و عاجل المارقة حتى تلقاهم فإن الله إن شاء ناصرك عليهم و السلام. و بعث الحجاج على المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة و خرج عثمان حتى قدم على(5/209)
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 258عبد الرحمن و من معه و هم معسكرون على نهر حولايا قريبا من البت و ذلك يوم التروية عشاء فنادى في الناس و هو على تلعة أيها الناس اخرجوا إلى عدوكم فوثبوا إليه و قالوا ننشدك الله هذا المساء قد غشينا و الناس لم يوطنوا أنفسهم على الال فبت الليلة ثم اخرج على تعبية فجعل يقول لأناجزنهم الليلة و لتكونن الفرصة لي أو لهم فأتاه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخذ بعنان بغلته و ناشده الله لما نزل و قال له عقيل بن شداد السلوني إن الذي تريده من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غدا و هو خير لك و للناس إن هذه ساعة ريح قد اشتدت مساء فانزل ثم أبكر بنا غدوة. فنزل و سفت عليه الريح و شق عليه الغبار فاستدعى صاحب الخراج علوجا فبنوا له قبة فبات فيها ثم أصبح فخرج بالناس فاستقبلتهم ريح شديدة و غبرة فصاح الناس إليه و قالوا ننشدك الله ألا تخرج بنا في هذا اليوم فإن الريح علينا فأقام ذلك اليوم. و كان شبيب يخرج إليهم فلما رآهم لا يخرجون إليه أقام فلما كان الغد خرج عثمان يعبئ الناس على أرباعهم و سألهم من كان على ميمنتكم و ميسرتكم فقالوا خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا و عقيل بن شداد السلوني على ميمنتنا فدعاهما و قال لهما قفا في مواقفكما التي كنتما بها فقد وليتكما المجنبتين فاثبتا و لا تفرا فو الله لا أزول حتى تزول نخيل راذان عن أصولها فقالا نحن و الله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل فقال لهما جزاكما الله خيرا ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة ثم خرج بالخيل فنزل يمشي في الرجال و خرج شبيب و معه يومئذ مائة و أحد و ثمانون رجلا فقطع إليهم النهر و كان هو في ميمنة أصحابه و جعل على الميسرة سويد بن سليم و جعل في القلب مصادا أخاه و زحفوا و كان عثمان بن قطن يقول لأصحابه فيكثر قل لن شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 259ينفعكم ارار إن فررتم من الموت أو القتل و إذا لا تمتعون إلا قليلا. ثم قال(5/210)