شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 239فلما لقي هؤلاء قاتلهم فصبروا له ساعة و قاتلوه ثم إنا دفعنا إليهم جميعا فهزمناهم و أخذوا الطريق الأعظم و ليس بينهم و بين عسكرهم بدير يزدجرد إلا نحو ميل فقال لنا شبيب اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استتم فاتبعناهم ملظين بهم ملحين عليهم ما نرفه عنهم و هم منهزمون ما لهم همة إلا عسكرهم. فمنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم و رشقوهم بالنبل و كانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا و كان الجزل قد خندق عليهم و تحرز و وضع هذه المسلحة الذين لقيناهم بدير الخرارة و وضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان. فلما اجتمعت المسالح و رشقوهم بالنبل و منعونا من خندقهم رأى شبيب أنه لا يصل إليهم فقال لأصحابه سيروا و دعوهم فلما سار عنهم أخذ على طريق حلوان حتى كان منهم على سبعة أميال قال لأصحابه انزلوا فاقضموا دوابكم و قيلوا و تروحوا فصلوا ركعتين ثم اركبوا ففعلوا ذلك ثم أقبل بهم راجعا إلى عسكر الكوفة و قال سيروا على تعبيتكم التي عبأتكم عليها أول الليل و أطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم فأقبلنا معه و قد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم و أمنوا فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر الخيل فانتهينا إليهم قبيل الصبح و أحطنا بعسكرهم و صحنا بهم من كل ناحية فقاتلونا و رمونا بالنبل فقال شبيب لأخيه مصاد و كان يقاتلهم من الجانب شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 240الذي يلي الكوفة خل لهم سبيل ]طريق[ الكوفة فخلى لهم و قاتلناهم من تلك الوجوه الثلاثة الأخرى إلى الصبح ثم سرنا و تركناهلأنا لم نظفر بهم فلما سار شبيب سار الجزل في أثره يطلبه و جعل لا يسير إلا على تعبية و ترتيب و لا ينزل إلا على خندق و أما شبيب فضرب في أرض جوخى و ترك الجزل فطال أمره على الحجاج فكتب إلى الجزل كتابا قرئ على الناس و هو أما بعد فإني بعثتك في فرسان أهل المصر و وجوه الناس و أمرتك باتباع هذه المارقة و ألا تقلع عنها حتى تقتلها و(5/196)
تفنيها فجعلت التعريس في القرى و التخييم في الخنادق أهون عليك من المضي لمناهضتهم و مناجزتهم و السلام. قال فشق كتاب الحجاج على الجزل و أرجف الناس بأمره و قالوا سيعزله فما لبث الناس أن بعث الحجاج سعيد بن المجالد أميرا بدله و عهد إليه إذا لقي المارقة أن يزحف إليهم و لا يناظرهم و لا يطاولهم و لا يصنع صنع الجزل و كان الجزل يومئذ قد انتهى في طلب شبيب إلى النهروان و قد لزم عسكره و خندق عليهم فجاء سعيد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا فقام فيهم خطيبا فحمد الله و أثنى عليه ثم قال يا أهل الكوفة إنكم قد عجزتم و وهنتم و أغضبتم عليكم أميركم أنتم في طلب هذه الأعاريب العجف منذ شهرين قد أخربوا بلادكم و كسروا خراجكم و أنتمم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 241حذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم و نزلوا بلدا سوى بلدكم اخرجوا على اسم الله إليهم. ثم خرج و خرج الناس معه فقال له الجزل ما تريد أن تصنع قال أقدم على شبيب و أصحابه في هذه الخيل فقال له جزل أقم أنت في جماعة الناس فارسهم و راجلهم و لا تفرق أصحابك و دعني أصحر له فإن ذلك خير لك و شر لهم. فقال سعيد بل تقف أنت في الصف و أنا أصحر له فقال الجزل إني بري ء من رأيك هذا سمع الله و من حضر من المسلمين فقال سعيد هو رأيي إن أصبت فيه فالله وفقني و إن أخأت فيه فأنتم برآء. فوقف الجزل في صف أهل الكوفة و قد أخرجهم من الخندق و جعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي و على ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الراسبي و وقف الجزل في جماعتهم و استقدم سعيد بن مجالد فخرج و أخرج الناس معه و قد أخذ شبيب إلى براز الروز فنزل قطفتا و أمر دهقانها أن يشوي لهم غنما و يعد لهم غداء ففعل و أغلق مدينة قطفتا و لم يفرغ(5/197)
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 242الدهقان من طعامه حتى أحاط بها ابن مجالد فصعد الدهقان ثم نزل و قد تغير لونه فقال شبيب ما بالك قال قد جاءك جمع عظيم قال أ بلغ شواؤك قال لا قال دعه يبلغ ثم أشرف الدهقان إشرافة أخرى ثم نزل فقال قد أحاطوا بالجوسق قال هات شواءك فج يأكل غير مكترث بهم و لا فزع فلما فرغ قال لأصحابه قوموا إلى الصلاة و قام فتوضأ فصلى بأصحابه صلاة الأولى و لبس درعه و تقلد سيفه و أخذ عموده الحديد ثم قال أسرجوا لي بغلتي فقال أخوه أ في مثل هذا اليوم تركب بغلة قال نعم أسرجوها فركبها ثم قال يا فلان أنت على الميمنة و أنت يا فلان على الميسرة و أنت يا مصاد يعني أخاه على القلب و أمر الدهقان ففتح الباب في وجوههم. فخرج إليهم و هو يحكم و حمل حملة عظيمة فجعل سعيد و أصحابه يرجعون القهقرى حتى صار بينهم و بين الدير ميل و شبيب يصيح أتاكم الموت الزؤام فاثبتوا و سعيد يصيح يا معشر همدان إلي إلي أنا ابن ذي مران فقال شبيب لمصاد ويحك استعرضهم استعراضا فإنهم قد تقطعوا و إني حامل على أميرهم و أثكلنيك الله إن لم أثكله ولده ثم حمل على سعيد فعلاه بالعمود فسقط ميتا و انهزم أصحابه و لم يقتل يومئذ من الخوارج إلا رجل واحد. و انتهى قتل سعيد إلى الجزل فناداهم أيها الناس إلي إلي و صاح عياض بن أبي لينة أيها الناس إن يكن أميركم هذا القادم هلك فهذا أميركم الميمون النقيبة أقبلوا إليه فمنهم من أقبل إليه و منهم من ركب فرسه منهزما و قاتل الجزل يومئذ قتالا شديدا حتى صرع و حامى عنه خالد بن نهيك و عياض بن أبي لينة حتى استنقذاه شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 243مرتثا و أقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة و أتي بالجزل جريحا حتى دخل المدائن فكتب إلى الحجاج أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني فيه إلى عدوه و قد كنت حفظت ع الأمير إلي فيهم و رأيه فكنت أخرج إلى المارقين إذا رأيت الفرصة و(5/198)
أحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة فلم أزل كذلك أدير الأمر و أرفق في التدبير و قد أرادني العدو بكل مكيدة فلم يصب مني غرة حتى قدم علي سعيد بن مجالد فأمرته بالتؤدة و نهيته عن العجلة و أمرته ألا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة فعصاني و تعجل إليهم في الخيل فأشهدت الله عليه و أهل المصرين إني بري ء من رأيه الذي رأى و إني لا أهوى الذي صنع فمضى فقتل تجاوز الله عنه و دفع الناس إلي فنزلت و دعوتهم إلى نفسي و رفعت رايتي و قاتلت حتى صرعت فحملني أصحابي من بينالقتلى فما أفقت إلا و أنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة و أنا اليوم بالمدائن و في جراحات قد يموت الإنسان من دونها و قد يعافى من مثلها فليسأل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له و لجنده و عن مكايدتي عدوه و عن موقفي يوم البأس فإنه سيبين له عند ذلك أني صدقته و نصحت له و السلام. فكتب إليه الحجاج(5/199)
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 244أما بعد فقد أتاني كتابك و قرأته و فهمت كل ما ذكرته فيه من أمر سعيد و أمر نفسك و قد صدقتك في نصيحتك لأميرك و حيطتك على أهل مصرك و شدتك على عدوك و قد رضيت عجلة سعيد و تؤدتك فأما عجلته فإنها أفضت به إلى الجنة و أما تؤدتك فإنها لم تدع الفرصة إذا أمكنت حزم و قد أحسنت و أصبت و أجرت و أنت عندي من أهل السمع و الطاعة و النصيحة و قد أشخصت إليك حيان بن أبجر الطبيب ليداويك و يعالج جراحاتك و قد بعثت إليك بألفي درهم نفقة تصرفها في حاجتك و ما ينوبك و السلام. و بعث عبد الله بن أبي عصيفير والي المدائن إلى الجزل بألف درهم و كان يعوده و يتعاهده بالألطاف و الهدايا. و أما شبيب فأقبل حتى قطع دجلة عند الكرخ و أخذ بأصحابه نحو الكوفة و بلغ الحجاج مكانه بحمام أعين فبعث إليه سويد بن عبد الرحمن السعدي فجهزه بألفي فارس منتخبين و قال له اخرج إلى شبيب فالقه و لا تتبعه فخرج بالناس بالسبخة و بلغه أن شبيبا قد أقبل فسار نحوه كأنما يساق إلى الموت هو و أصحابه و أمر الحجاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس في السبخة و نادى ألا برئت الذمة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة و لم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة فبينا سويد بن عبد الرحمن يسير في الألفين الذين معه و هو يعبيهم و يحرضهم إذ قيل له شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 245قد غشيك شبيب فنزل و نزل معه جل أصحابه و قدم رايته فأخبر أن شبيبا لما علم بمكانه تركه و وجد مخاضة فعبر الفرات يريد الكوفة من غير الوجه الذي سويد بن عبد الرن به ثم قيل أ ما تراهم فنادى في أصحابه فركبوا في آثارهم فأتى شبيب دار الرزق فنزلها و قيل له إن أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون فلما بلغهم مكان شبيب ماج الناس بعضهم إلى بعض و جالوا و هموا بدخول الكوفة حتى قيل هذا سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم و هو يقاتلهم في الخيل و مضى شبيب حتى أخذ على شاطئ الفرات ثم أخذ على الأنبار ثم(5/200)