بطنت سر فلان أي أخفيته. و الأعلام جمع علم و هو المنار يهتدى به ثم جعل لكل ما دل على شي ء فقيل لمعجزات الأنبياء أعلام لدلالتها على نبوتهم و قوله ع أعلام الظهور أي الأدلة الظاهرة الواضحة. و قوله فيما بعد أعلام الوجود أي الأدلة الموجودة و الدلالة هي الوجود نسه و سيأتي شرح ذلك. و قوله و امتنع على عين البصير يقول إنه سبحانه ليس بمرئي بالعين و مع شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 217ذلك فلا يمكن من لم يره بعينه أن ينكره لدلالة كل شي ء عليه بل لدلالته سبحانه على نفسه. ثم قال و لا قلب من أثبته يبصره أي لا سبيل لمن أثبتوده أن يحيط علما بجميع أحواله و معلوماته و مصنوعاته أو أراد أنه لا تعلم حقيقة ذاته كما قاله قوم من المحققين. و قد روي هذا الكلام على وجه آخر قالوا في الخطبة فلا قلب من لم يره ينكره و لا عين من أثبته تبصره و هذا غير محتاج إلى تفسير لوضوحه. و قوله ع فلا استعلاؤه باعده أي ليس علوه و لا قربه كما نعقله من العلو و القرب المكانيين بل هو علو و قرب خارج من ذلك فليس علوه يقتضي بعده بالمكان عن الأجسام و لا قربه يقتضي مساواته إياها في الحاجة إلى المكان و الجهة. و الباء في به متعلقة بساواهم معناه و لا قربه ساواهم به في الحاجة إلى المكان أي لم يقتض قربه مماثلته و مساواته إياهم في ذلك
فصول في العلم الإلهي(4/187)


و هذا الفصل يشتمل على عدة مباحث من العلم الإلهي أولها كونه تعالى عالما بالأمور الخفية. و الثاني كونه تعالى مدلولا عليه بالأمور الظاهرة يعني أفعاله. و الثالث أن هويته تعالى غير معلومة للبشر. و الرابع نفي تشبيهه بشي ء من مخلوقاته. شرح نهج البلاغة ج : 3 ص 18و الخامس بيان أن الجاحد لإثباته مكابر بلسانه و عارف به بقلبه. و نحن نذكر القول في جميع ذلك على سبيل اقتصاص المذاهب و الأقوال و نحيل في البرهان على الحق من ذلك و بطلان شبه المخالفين فيه على ما هو مذكور في كتبنا الكلامية إذ ليس هذا الكتاب موضوعا لذلك و إن كنا قد لا نخلي بعض فصوله من إشارة إلى الدليل موجزة و تلويح إلى الشبهة لطيف فنقول أما
الفصل الأول و هو الكلام في كونه تعالى عالما بالأمور الخفية(4/188)


فاعلم أن أمير المؤمنين ع إنما قال بطن خفيات الأمور و هذا القدر من الكلام يقتضي كونه تعالى عالما يعلم الأمور الخفية الباطنة و هذا منقسم قسمين أحدهما أن يعلم الأمور الخفية الحاضرة. و الثاني أن يعلم الأمور الخفية المستقبلة. و الكلام من حيث إطلاقه يحتمل الأمرين فنحمله عليهما معا فقد خالف في كل واحدة من المسألتين قوم فمن الناس من نفى كونه عالما بالمستقبلات و من الناس من نفى كونه عالما بالأمور الحاضرة سواء كانت خفية أو ظاهرة و هذا يقتضينا أن نشرح أقوال العقلاء في هذه المسائل فنقول إن الناس فيها على أقوال القول الأول قول جمهور المتكلمين و هو أن البارئ سبحانه يعلم كل معلوم الماضي و الحاضر و المستقبل ظاهرها و باطنها و محسوسها و غير محسوسها فهو تعالى العالم بما كان و ما هو حاضر و ما سيكون و ما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون كقوله شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 219تعالى وََوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ فهذا علم بأمر مقدر على تقدير وقوع أصله الذي قد علم أنه لا يكون. القول الثاني قول من زعم أنه تعالى لا يعلم الأمور المستقبلة و شبهوه بكونه مدركا قالوا كما أنه لا يدرك المستقبلات فكذلك لا يعلم المستقبلات و هو قول هشام بن الحكم. القول الثالث قول من زعم أنه لا يعلم الأمور الحاضرة و هذا القول نقيض القول الثاني و شبهوه بكونه قادرا قالوا كما أنه لا يقدر على الموجود فكذلك لا يعلم الموجود و نسب ابن الراوندي هذا القول إلى معمر بن عباد أحد شيوخنا و أصحابنا يكذبونه في ذلك و يدفعون الحكاية عنه. القول الرابع قول من زعم أنه تعالى لا يعلم نفسه خاصة و يعلم كل ما عدا ذاته و نسب ابن الراوندي هذه المقالة إلى معمر أيضا و قال إنه يقول إن العالم غير المعلوم و الشي ء لا يكون غير نفسه و أصحابنا يكذبون ابن الراوندي في هذه الحكاية و ينزهون معمراعنها. القول الخامس قول من قال إنه تعالى لم يكن فيما لم يزل عالما(4/189)


بشي ء أصلا و إنما أحدث لنفسه علما علم به الأشياء و هو قول جهم بن صفوان. القول السادس قول من قال إنه تعالى لا يعلم كل المعلومات على تفاصيلها و إنما يعلم ذلك إجمالا و هؤلاء يسمون المسترسلية لأهم يقولون يسترسل علمه على المعلومات شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 220إجمالا لا تفصيلا و هو مذهب الجويني من متكلمي الأشعرية. القول السابع قول من قال إنه تعالى يعلم المعلومات المفصلة ما لم يفض القول به إلى محال و زعموا أن القول بأنه يعلم كل شي ء يفضي إلى محالهو أن يعلم و يعلم أنه يعلم و هلم جرا إلى ما لا نهاية له و كذلك المحال لازم إذا قيل إنه يعلم الفروع و فروع الفروع و لوازمها و لوازم لوازمها إلى ما لا نهاية له قالوا و محال اجتماع كل هذه العلوم غير المتناهية في الوجود و هذا مذهب أبي البركات البغدادي صاحب المعتبر. القول الثامن قول من زعم أنه تعالى لا يعلم الشخصيات الجزئية و إنما يعلم الكليات التي لا يجوز عليها التغيير كالعلم بأن كل إنسان حيوان و يعلم نفسه أيضا و هذا مذهب أرسطو و ناصري قوله من الفلاسفة كابن سينا و غيره. القول التاسع قول من زعم أنه تعالى لا يعلم شيئا أصلا لا كليا و لا جزئيا و إنما وجد العالم عنه لخصوصية ذاته فقط من غير أن يعلمه كما أن المغناطيس يجذب الحديد لقوة فيه من غير أن يعلم بالجذب و هذا قول قوم من قدماء الفلاسفة. فهذا تفصيل المذاهب في هذه المسألة. و اعلم أن حجة المتكلمين على كونه عالما بكل شي ء إنما تتضح بعد إثبات حدوث العالم و أنه فعله بالاختيار فحينئذ لا بد من كونه عالما لأنه لو لم يكن عالما بشي ء أصلا لما صح أن يحدث العالم على طريق الاختيار لأن الإحداث على طريق الاختيار إنما يكون بالغرض و الداعي و ذلك يقتضي كونه عالما فإذا ثبت أنه عالم ي ء أفسدوا حينئذ أن يكون عالما بمعنى اقتضى له العالمية أو بأمر خارج عن ذاته مختارا كان أو غير مختار شرح نهج البلاغة ج : 3 ص :(4/190)


221فحينئذ ثبت لهم أنه إنما علم لأنه هذه الذات المخصوصة لا لشي ء أزيد منها فإذا كان لهم ذلك وجب أن يكون عالما بكل معلوم لأن الألذي أوجب كونه عالما بأمر ما هو ذاته يوجب كونه عالما بغيره من الأمور لأن نسبة ذاته إلى الكل نسبة واحدة. فأما الجواب عن شبه المخالفين فمذكور في المواضع المختصة بذلك فليطلب من كتبنا الكلامية
الفصل الثاني في تفسير قوله ع و دلت عليه أعلام الظهور
فنقول إن الذي يستدل به على إثبات الصانع يمكن أن يكون من وجهين و كلاهما يصدق عليه أنه أعلام الظهور أحدهما الوجود و الثاني الموجود. أما الاستدلال عليه بالوجود نفسه فهي طريقة المدققين من الفلاسفة فإنهم استدلوا على أن مسمى الوجود مشترك و أنه زائد على ماهيات الممكنات و أن وجود البارئ لا يصح أن يكون زائدا على ماهيته فتكون ماهيته وجودا و لا يجوز أن تكون ماهيته عارية عن الوجود فلم يبق إلا أن تكون ماهيته هي الوجود نفسه و أثبتوا وجوب ذلك الوجود و استحالة تطرق العدم بوجه ما فلم يفتقروا في إثبات البارئ إلى تأمل أمر غير نفس الوجود. و أما الاستدلال عليه بالموجود لا بالوجود نفسه فهو الاستدلال عليه بأفعاله و هي طريقة المتكلمين قالوا كل ما لم يعلم بالبديهة و لا بالحس فإنما يعلم بآثاره الصادرة عنه و البارئ تعالى كذلك فالطريق إليه ليس إلا أفعاله فاستدلوا عليه بالعالم و قالوا تارة العالم محدث و كل محدث له محدث و قالوا تارة أخرى العالم ممكن فله مؤثر شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 222و قال ابن سينا إن الطريقة الأولى و هي الاستدلال عليه بالوجود نفسه أعلى و أشرف لأنه لم يحتج فيها إلى الاحتجاج بأمر خارج عن ذاته و استنبط آية من الكتاب اليز في هذا المعنى و هي قوله تعالى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. قال ابن سينا أقول إن هذا حكم لقوم يعني المتكلمين و غيرهم ممن يستدل عليه تعالى(4/191)

6 / 148
ع
En
A+
A-