قال و كان المهلب يقول لبنيه لا تبدءوا الخوارج بقتال حتى يبدءوكم و يبغوا عليكم فإنهم إذا بغوا عليكم نصرتم عليهم. فشخص عتاب إلى الحجاج في سنة سبع و سبعين فوجهه إلى شبيب فقتله شبيب. و أقام المهلب على حربهم فلما انقضى من مقامه ثمانية عشر شهرا اختلفوا و افترقت كلمتهم و كان سبب اختلافهم أن رجلا حدادا من الأزارقة كان يعمل نصالا مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب فرفع ذلك إلى المهلب فقال أنا أكفيكموه إن شاء الله فوجه رجلا من أصحابه بكتاب و ألف درهم إلى عسكر قطري فقال له ألق هذا الكتاب في العسكر و الدراهم و احذر على نفسك و كان الحداد يقال له أبزى فمضى الرجل و كان في الكتاب أما بعد فإن نصالك قد وصلت إلي و قد وجهت إليك بألف درهم فاقبضها و زدنا من هذه النصال. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 197فوقع الكتاب إلى قطري فدعا بأبزى فقال ما هذا الكتاب قال لا أدري قال فما هذه الدراهم قالا أعلم فأمر به فقتل فجاءه عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة فقال له أ قتلت رجلا على غير ثقة و لا تبين قال قطري فما حال هذه الألف قال يجوز أن يكون أمرها كذبا و يجوز أن يكون حقا فقال قطري إن قتل رجل في صلاح الناس غير منكر و للإمام أن يحكم بما رآه صلاحا و ليس للرعية أن تعترض عليه فتنكر له عبد ربه في جماعة معه و لم يفارقوه. و بلغ ذلك المهلب فدس إليهم رجلا نصرانيا جعل له جعلا يرغب في مثله و قال له إذا رأيت قطريا فاسجد له فإذا نهاك فقل إنما سجدت لك ففعل ذلك النصراني فقال قطري إنما السجود لله تعالى فقال ما سجدت إلا لك فقال رجل من الخوارج إنه قد عبدك من دون الله و تلا إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ فقال قطري إن النصارى قد عبدوا عيسى ابن مريم فما ضر عيسى ذلك شيئا فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله فأنكر قطري ذلك عليه و أنكر قوم من الخوارج إنكاره. و بلغ المهلب ذلك فوجه(5/166)


إليهم رجلا يسألهم فأتاهم الرجل فقال أ رأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكم فمات أحدهما في الطريق و بلغ الآخر إليكم فامتحنتموه فلم يجز المحنة ما تقولون فيهما فقال بعضهم أما الميت فمؤمن من أهل الجنة و أما الذي لم يجز المحنة فكافر حتى يجيز المحنة. و قال قوم آخرون بل هما كافران حتى يجيز المحنة فكثر الاختلاف. و خرج قطري إلى حدود إصطخر فأقام شهرا و القوم في اختلافهم ثم أقبل فقال شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 198لهم صالح بن مخراق يا قوم إنكم أقررتم عين عدوكو أطمعتموه فيكم بما يظهر من خلافكم فعودوا إلى سلامة القلوب و اجتماع الكلمة. و خرج عمرو القنا و هو من بني سعد بن زيد مناة بن تميم فنادى يا أيها المحلون هل لكم في الطراد فقد طال عهدي به ثم قال
أ لم تر أنا مذ ثلاثين ليلة جديب و أعداء الكتاب على خفض
فتهايج القوم و أسرع بعضهم إلى بعض و كانت الوقعة و أبلى يومئذ المغيرة بن المهلب و صار في وسط الأزارقة فجعلت الرماح تحطه و ترفعه و اعتورت رأسه السيوف و عليه ساعد حديد فوضع يده على رأسه فلم يعمل السيف فيه شيئا و استنقذه فرسان من الأزد بعد أن صرع و كان الذي صرعه عبيدة بن هلال بن يشكر بن بكر بن وائل و كان يقول يومئذ
أنا ابن خير قومه هلال شيخ على دين أبي بلال و ذاك ديني آخر اللياليفقال رجل للمغيرة كنا نعجب كيف تصرع و الآن نعجب كيف تنجو و قال المهلب لبنيه إن سرحكم لغار و لست آمنهم عليه أ فوكلتم به أحدا قالوا لا فلم يستتم الكلام حتى أتاه آت فقال إن صالح بن مخراق قد أغار على السرح فشق على المهلب و قال كل أمر لا إليه بنفسي فهو ضائع و تذمر عليهم فقال له بشر بن المغيرة أرح نفسك فإن كنت إنما تريد مثلك فو الله ما يعدل خيرنا شسع نعلك شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 199فقال خذوا عليهم الطريق فبادر بشر بن المغيرة و مدرك و المفضل ابنا المهلب فسبق بشر إلى الطريق فإذا رجل أسود من الأزارقة يشل السرح و يقول(5/167)


نحن قمعناكم بشل السرح و قد نكانا القرح بعد القرح
و لحقه المفضل و مدرك فصاحا برجل من طيئ اكفنا الأسود فاعتوره الطائي و بشر بن المغيرة فقتلاه و أسرا رجلا من الأزارقة من همدان و استردا السرح. قال و كان عياش الكندي شجاعا بئيسا فأبلي يومئذ فلما مات على فراشه بعد ذلك قال المهلب لا وألت نفس الجبان بعد عياش و قال المهلب ما رأيت تالله كهؤلاء القوم كلما انتقص منهم يزيد فيهم. و وجه الحجاج رجلين إلى المهلب يستحثانه بالقتال أحدهما من كلب و الآخر من سليم فقال المهلب متمثلا بشعر لأوس بن حجر
و مستعجب مما يرى من أناتنا و لو زبنته الحرب لم يترمرم
فقال المهلب ليزيد ابنه حرك القوم فحركهم فتهايجوا و ذلك في قرية من قرى إصطخر فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب و طعنه فشك فخذه بالسرج فقال المهلب للسلمي و الكلبي كيف يقاتل قوم هذا طعنهم و حمل شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 200يزيد عليهم و قد جاء الرق و هو من فرسان المهلب و هو أحد بني مالك بن ربيعة على فرس له أدهم و به نيف و عشرون جراحة و قد وضع عليها القطن فلما حمل يزيد ولى الجمع و حماهم فارسان منهم فقال يزيد لقيس الخشني مولى العتيك من لهذين قال أنا فحمل عليهما فعطف عليه أحدهما فطعنه قيس فصرعه و حمل عليه الآخر فتعانقا فسقطا جميعا إلى الأرض فصاح قيس الخشني اقتلونا جميعا فحملت خيل هؤلاء و خيل هؤلاء فحجزوا بينهما فإذا معانق قيس امرأة فقام قيس مستحييا فقال له يزيد يا أبا بشر أما أنت فبارزتها على أنها رجل فقال أ رأيت لو قتلت أ ما كان يقال قتلته امرأة و أبلى يومئذ ابن المنجب السدوسي فقال غلام له يقال له خلاج و الله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى نصير إلى مستقرهم فاستلب مما هناك جاريتين فقال له مولاه ابن المنجب و كيف تمنيت ويحك اثنتين فقال لأعطيك إحداهما و آخذ الأخرى فقال ابن المنجب(5/168)


أ خلاج إنك لن تعانق طفلة شرقا بها الجادي كالتمثال حتى تلاقي في الكتيبة معلما عمرو القنا و عبيدة بن هلال و ترى المقعطر في الفوارس مقدما في عصبة نشطوا على الضلا شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 201أو أن يعلمك المهلب غزوه و ترى جبالا قد دنت لجباقال و كان بدر بن الهذيل من أصحاب المهلب شجاعا و كان لحانة كان إذا أحس بالخوارج ينادي يا خيل الله اركبي و إليه يشير القائل
و إذا طلبت إلى المهلب حاجة عرضت توابع دونه و عبيدالعبد كردس و بدر مثله و علاج باب الأحمرين شديد
قال و كان بشر بن المغيرة بن أبي صفرة أبلى يومئذ بلاء حسنا عرف مكانه فيه و كانت بينه و بين المهلب جفوة فقال لبنيه يا بني عم إني قد قصرت عن شكاة العاتب و جاوزت شكاة المستعتب حتى كأني لا موصول و لا محروم فاجعلوا لي فرجة أعيش بها و هبوني امرأ رجوتم نصره أو خفتم لسانه فرجعوا له و وصلوه و كلموا فيه المهلب فوصله. و ولى الحجاج كردما فارس و وجهه إليها و الحرب قائمة فقال رجل من أصحاب المهلب
و لو رآها كردم لكردما كردمة العير أحس الضيغما
فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن إصطخر و دارابجرد لأرزاق الجند ففعل و قد كان قطري هدم مدينة إصطخر لأن أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره و أراد مثل ذلك بمدينة فسا فاشتراها منه آزاذ مرد بن الهربذ بمائة ألف درهم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 202فلمهدمها فواقعه وجه المهلب فهزمه فنفاه إلى كرمان و اتبعه المغيرة ابنه و قد كان دفع إليه سيفا وجه به الحجاج إلى المهلب و أقسم عليه أن يتقلده فدفعه إلى المغيرة بعد ما تقلده فرجع به المغيرة إليه و قد دماه فسر المهلب و قال ما يسرني أن يكون كنت دفعته إلى غيرك من ولدي و قال له اكفني جباية خراج هاتين الكورتين و ضم إليه الرقاد فجعلا يجبيان و لا يعطيان الجند شيئا ففي ذلك يقول رجل من بني تميم في كلمة له(5/169)


و لو علم ابن يوسف ما نلاقي من الآفات و الكرب الشدادلفاضت عينه جزعا علينا و أصلح ما استطاع من الفسادألا قل للأمير جزيت خيرا أرحنا من مغيرة و الرقادفما رزق الجنود بهم قفيزا و قد ساست مطامير الحصاد
أي وقع فيها السوس. قال ثم حاربهم المهلب بالسيرجان حتى نفاهم عنها إلى جيرفت و اتبعهم و نزل قريبا منهم. ثم اختلفت كلمة الخوارج و كان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اتهم بامرأة رجل نجار رأوه يدخل مرارا إليها بغير إذن فأتى قطريا فذكروا ذلك له فقال لهم إن عبيدة من الدين بحيث علمتم و من الجهاد بحيث رأيتم فقالوا إنا لا نقار على الفاحشة فقال شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 203انصرفوا ثم بعث إلى عبيدة فأخبره و قال له أنا لا أقار على الفاحشة فقال بهتوني يا أمير المؤمنين فما ترى قال إني جامع بينك و بينهم فلا تخضع خضوع المذنب و تتطاول تطاول البري ء فجمع بينهم فتكلموا فقام عبيدة فقال بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ... حتى تلا الآيات فبكوا و قاموا إليه فاعتنقوه و قالوا استغفر لنا ففعل فقال عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة و الله لقد خعكم فتابع عبد ربه منهم ناس كثير و لم يظهروا و لم يجدوا على عبيدة في إقامة الحد ثبتا. و كان قطري قد استعمل رجلا من الدهاقين فظهرت له أموال كثيرة فأتوا قطريا فقالوا إن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا فقال قطري إني استعملته و له ضياع و تجارات فأوغر ذلك صدورهم و بلغ المهلب ذلك فقال اختلافهم أشد عليهم مني ثم قالوا لقطري أ لا تخرج بنا إلى عدونا فقال لا ثم خرج فقالوا قد كذب و ارتد فاتبعوه يوما فأحس بالشر و دخل دارا مع جماعة من أصحابه فاجتمعوا عليه و صاحوا اخرج إلينا يا دابة فخرج إليهم فقال أ رجعتم بعدي كفارا قالوا أ و لست دابة قال الله تعالى وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها و لكنك قد كفرت بقولك(5/170)

59 / 148
ع
En
A+
A-