و يروى عن أبي البئر قال إنا لنتغدى معه يوما إذ جاءه رجل من بني سليم برجل يقوده فقال أصلح الله الأمير إن هذا عاص فقال له الرجل أنشدك الله أيها الأمير في دمي فو الله ما قبضت ديوانا قط و لا شهدت عسكرا قط و إني لحائك أخذت من تحت الحف فقال اضربوا عنقه فلما أحس بالسيف سجد فلحقه السيف و هو ساجد فأمسكنا عن الأكل فأقبل علينا و قال ما لي أراكم قد صفرت أيديكم و اصفرت وجوهكم و حد نظركم من قتل رجل واحد ألا إن العاصي يجمع خلالا يخل بمركزه و يعصي أميره و يغر المسلمين و هو أجير لهم و إنما يأخذ الأجرة لما يعمل و الوالي مخير فيه إن شاء قتل و إن شاء عفا. ثم كتب إلى المهلب أما بعد فإن بشرا استكره نفسه عليك و أراك غناه عنك و أنا أريك حاجتي إليك فأرني الجد في قتال عدوك و من خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 185فإني قاتل من قبلي و من كان عندي ممن هرب عنكأعلمني مكانه فإني أرى أن آخذ السمي بالسمي و الولي بالولي. فكتب إليه المهلب ليس قبلي إلا مطيع و إن الناس إذا خافوا العقوبة كبروا الذنب و إذا أمنوا العقوبة صغروا الذنب و إذا يئسوا من العفو أكفرهم ذلك فهب لي هؤلاء الذين سميتهم عصاة فإنهم فرسان أبطال أرجو أن يقتل الله بهم العدو و نادم على ذنبه. فلما رأى المهلب كثرة الناس عنده قال اليوم قوتل هذا العدو. و لما رأى ذلك قطري قال لأصحابه انهضوا بنا نريد السردن فنتحصن فيها فقال عبيدة بن هلال أو تأتي سابور فتأخذ منها ما نريد و تصير إلى كرمان فأتوا سابور و خرج المهلب في آثارهم فأتى أرجان و خاف أن يكونوا قد تحصنوا بالسردن و ليست بمدينة و لكنها جبال محدقة منيعة فلم يصب بها أحدا فخرج فعسكر بكازرون و استعدوا لقتاله فخندق على نفسه و وجه إلى عبد الرحمن شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 186بن مخنف خندق على نفسك فوجه إليه خنادقنا سيوفنا فوجه المهلب إليه إني لا آمن عليك البيات فقال ابنه جعفر ذاك أهون(5/156)
علينا من ضرطة جمل فأقبل المهلب على ابنه المغيرة فقال لم يصيبوا الرأي و لم يأخذوا بالوثيقة. فلما أصبح القوم عاودوه حرب فبعث إلى ابن مخنف يستمده فأمده بجماعة جعل عليهم ابنه جعفرا فجاءوا و عليهم أقبية بيض جدد فأبلوا يومئذ حتى عرف مكانهم المهلب و أبلى بنوه يومئذ كبلاء الكوفيين أو أشد. ثم أتى رئيس من الخوارج يقال له صالح بن مخراق و هو ينتخب قوما من جلة العسكر حتى بلغ أربعمائة فقال لابنه المغيرة ما أراه يعد هؤلاء إلا للبيات. و انكشفت الخوارج و الأمر للمهلب عليهم و قد كثر فيهم الجراح و القتل و قد كان الحجاج يتفقد العصاة و يوجه الرجال و كان يحبسهم نهارا و يفتح الحبس ليلا فيتسلل الرجال إلى ناحية المهلب و كان الحجاج لا يعلم فإذا رأى إسراعهم تمثل
إن لها لسائقا عشنزرا إذا وثبن وثبة تغشمرا(5/157)
ثم كتب الحجاج إلى المهلب يستحثه أما بعد فإنه قد بلغني أنك قد أقبلت على جباية الخراج و تركت قتال العدو و إني وليتك و أنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي و عباد بن الحصين الحبطي و اخترتك و أنت من أهل عمان ثم رجل من الأزد فالقهم يوم كذا في مكان كذا و إلا أشرعت إليك صدر الرمح. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 187فشاور المهلب بنيه فقالوا أيها الأمير لا تغلظ عليه في الجواب. فكتب إليه ورد إلي كتابك تزعم أني أقبلت على جباية الخراج و تركت قتال العدو و من عجز عن جباية الخراج فهو عن قتال العدو أعجز و زعمت أنك وليتني و أ ترى مكان عبد الله بن حكيم و عباد بن الحصين و لو وليتهما لكانا مستحقين لذلك لفضلهما و غنائهما و بطشهما و زعمت أنك اخترتني و أنا رجل من الأزد و لعمري إن شرا من الأزد لقبيلة تنازعتها ثلاث قبائل لم تستقر في واحدة منهن و زعمت أني إن لم ألقهم يوم كذا في مكان كذا أشرعت إلى صدر الرمح لو فعلت لقلبت لك ظهر المجن و السلام. قال ثم كانت الوقعة بينه و بين الخوارج عقيب هذا الكتاب. فلما انصرف الخوارج تلك الليلة قال لابنه المغيرة إني أخاف البيات على بني تميم فانهض إليهم فكن فيهم فأتاهم المغيرة فقال له الحريش بن هلال يا أبا حاتم أ يخاف الأمير أن يؤتى من ناحيتنا قل له فليبت آمنا فإنا كافوه ما قبلنا إن شاء الله. فلما انتصف الليل و قد رجع المغيرة إلى أبيه سرى صالح بن مخراق في القوم الذين كان أعدهم للبيات إلى ناحية بني تميم و معه عبيدة بن هلال و هو يقول
إني لمذك للشراة نارها و مانع ممن أتاها دارهاو غاسل بالسيف عنها عارها
شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 188فوجد بني تميم أيقاظا متحارسين و خرج إليهم الحريش بن هلال و هو يقولوجدتمونا وقرا أنجادا لا كشفا ميلا و لا أوغادا(5/158)
ثم حمل على الخوارج فرجعوا عنه فاتبعهم ثم صاح بهم إلى أين يا كلاب النار فقالوا إنما أعدت لك و لأصحابك فقال الحريش كل مملوك لي حر إن لم تدخلوا النار ما دخلها مجوسي فيما بين سفوان و خراسان. ثم قال بعضهم لبعض نأتي عسكر ابن مخنف فإنه لا خندق عليه و قد بعث فرسانهم اليوم مع المهلب و قد زعموا أنا أهون عليهم من ضرطة جمل فأتوهم فلم يشعر ابن مخنف و أصحابه إلا و قد خالطوهم في عسكرهم. و كان ابن مخنف شريفا و فيه يقول رجل من بني عامر لرجل يعاتبه و يضرب بابن مخنف المثل
تروح و تغدو كل يوم معظما كأنك فينا مخنف و ابن مخنف
فترجل عبد الرحمن تلك الليلة يجالدهم حتى قتل و قتل معه سبعون رجلا من القراء فيهم نفر من أصحاب علي بن أبي طالب و نفر من أصحاب ابن مسعود و بلغ الخبر المهلب و جعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب فجاءهم مغيثا فقاتل حتى ارتث و وجه المهلب إليهم ابنه حبيبا فكشفهم ثم جاء المهلب حتى صلى على عبد الرحمن بن مخنف و أصحابه و صار جنده في جند المهلب فضمهم إلى ابنه حبيب فعيرهم البصريون و سموا جعفرا خضفة الجمل. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 189و قال رجل منهم لجعفر بن عبد الرحمن بن مخنفتركت أصحابكم تدمى نحورهم و جئت تسعى إلينا خضفة الجمل(5/159)
فلام المهلب أهل البصرة و قال بئسما قلتم و الله ما فروا و لا جبنوا و لكنهم خالفوا أميرهم أ فلا تذكرون فراركم بدولاب عني و فراركم بدارس عن عثمان. و وجه الحجاج البراء بن قبيصة إلى المهلب يستحثه في مناجزة القوم و كتب إليه إنك تحب بقاءهم لتأكل بهم فقال المهلب لأصحابه حركوهم فخرج فرسان من أصحابه فخرج إليهم من الخوارج جمع كثير فاقتتلوا إلى الليل فقال لهم الخوارج ويلكم أ ما تملون فقالوا لا حتى تملوا فقالوا فمن أنتم قالوا تميم فقالت الخوارج و نحن تميم أيضا فلما أمسوا افترقوا فلما كان الغد خرج عشرة من أصحاب المهلب و خرج إليهم من الخوارج عشرة و احتفر كل واحد منهم حفيرة و أثبت قدميه فيها كلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه فاجتره و قام مكانه حتى أعتموا فقال لهم الخوارج ارجعوا فقالوا بل ارجعوا أنتم قالوا لهم ويلكم من أنتم قالوا تميم قالوا و نحن شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 190يم أيضا فرجع البراء بن قبيصة إلى الحجاج فقال له مهيم قال رأيت أيها الأمير قوما لا يعين عليهم إلا الله. و كتب المهلب جواب الحجاج إني منتظر بهم إحدى ثلاث موتا ذريعا أو جوعا مضرا أو اختلافا من أهوائهم. و كان المهلب لا يتكل في الحراسة على أحد كان يتولى ذلك بنفسه و يستعين عليه بولده و بمن يحل محلهم في الثقة عنده. قال أبو حرملة العبدي يهجو المهلب و كان في عسكره
عدمتك يا مهلب من أمير أ ما تندى يمينك للفقيربدولاب أضعت دماء قومي و طرت على مواشكة درور
فقال له المهلب ويحك و الله إني لاقيكم بنفسي و ولدي قال جعلني الله فداء الأمير فذاك الذي نكره منك ما كلنا يحب الموت قال ويحك و هل عنه من محيص قال لا و لكنا نكره التعجيل و أنت تقدم عليه إقداما قال المهلب ويلك أ ما سمعت قول الكلحبة اليربوعي
فقلت لكأس ألجميها فإنما نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا(5/160)