فقال له عفاق لو كنت شاعرا لأجبتك و لكني أخبركم عن ثلاث خصال كن منكم و الله ما أرى أن تصيبوا بعدهن شيئا مما يسركم. أما واحدة فإنكم سرتم إلى أهل الشام حتى إذا دخلتم عليهم بلادهم قاتلتموهم فلما ظن القوم أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف فسخروا بكم فردوكم عنهم فلا و الله لا تدخلونها بمثل ذلك الجد و الحد و العدد الذي دخلتم به أبدا. و أما الثانية فإنكم بعثتم حكما و بعث القوم حكما فأما حكمكم فخلعكم و أما حكمهم فأثبتهم فرجع صاحبهم يدعى أمير المؤمنين و رجعتم متلاعنين متباغضين فو الله لا يزال القوم في علاء و لا تزالون في سفال. و أما الثالثة فإنه خالفكم قراؤكم و فرسانكم فعدوتم عليهم فذبحتموهم بأيديكم فو الله لا تزالون بعدها متضعضعين. قال و كان يمر عليهم بعد فيقول اللهم إني منهم بري ء و لابن عفان ولي فيقولون اللهم إنا لعلي أولياء و من ابن عفان برآء و منك يا عفاق. شرح نهجبلاغة ج : 4 ص : 87قال فأخذ لا يقلع فدعوا رجلا منهم له سجاعة كسجاعة الكهان فقالوا ويحك أ ما تكفينا بسجعك و خطبك هذا فقال كفيتكم فمر عفاق عليهم فقال كما كان يقول فلم يمهله أن قال له اللهم اقتل عفاقا فإنه أسر نفاقا و أظهر شقاقا و بين فراقا و تلون أخلاقا. فقال عفاق ويحكم من سلط علي هذا قال الله بعثني إليك و سلطني عليك لأقطع لسانك و أنصل سنامك و أطرد شيطانك. قال فلم يك يمر عليهم بعد إنما يمر على مزينة. و ممن فارقه ع عبد الله بن عبد الرحمن بن مسعود بن أوس بن إدريس بن معتب الثقفي شهد مع علي ع صفين و كان في أول أمره مع معاوية ثم صار إلى علي ع ثم رجع بعد إلى معاوية و كان علي ع يسميه الهجنع و الهجنع الطويل. و منهم القعقاع بن شور استعمله علي ع على كسكر فنقم منه أمورا منها أنه تزوج امرأة فأصدقها مائة ألف درهم فهرب إلى معاوية. و منهم النجاشي الشاعر من بني الحارث بن كعب كان شاعر أهل العراق بصفين و كان علي ع يأمره بمحاربة شعراء أهل الشام(5/76)
مثل كعب بن جعيل و غيره فشرب الخمر بالكوفة فحده علي ع فغضب و لحق بمعاوية و هجا عليا ع. شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 88حدث ابن الكلبي عن عوانة قال خرج النجاشي في أول يوم من شهر رمضان فمر بأبي ال الأسدي و هو قاعد بفناء داره فقال له أين تريد قال أردت الكناسة فقال هل لك في رءوس و أليات قد وضعت في التنور من أول الليل فأصبحت قد أينعت و قد تهرأت قال ويحك في أول يوم من رمضان قال دعنا مما لا نعرف قال ثم مه قال أسقيك من شراب كالورس يطيب النفس و يجرى في العرق و يزيد في الطرق يهضم الطعام و يسهل للفدم الكلام فنزل فتغديا ثم أتاه بنبيذ فشرباه فلما كان آخر النهار علت أصواتهما و لهما جار من شيعة علي ع فأتاه فأخبره بقصتهما فأرسل إليهما قوما فأحاطوا بالدار فأما أبو سمال فوثب إلى دور بني أسد فأفلت و أخذ النجاشي فأتي ع به فلما أصبح أقامه في سراويل فضربه ثمانين ثم زاده عشرين سوطا فقال يا أمير المؤمنين أما الحد فقد عرفته فما هذه العلاوة قال لجراءتك على الله و إفطارك في شهر رمضان ثم أقامه في سراويله للناس فجعل الصبيان يصيحون به خرئ النجاشي خرئ النجاشي و جعل يقول كلا إنها يمانية وكاؤها شعر. قال و مر به هند بن عاصم السلولي فطرح عليه مطرفا فجعل الناس يمرون به و يطرحون عليه المطارف حتى اجتمعت عليه مطارف كثيرة فمدح بني سلول فقال(5/77)
إذا الله حيا صالحا من عباده تقيا فحيا الله هند بن عاصم و كل سلولي إذا ما دعوته سريع إلى داعي العلا و المكارم هم البيض أقداما و ديباج أوجه جلوها إذا اسودت وجوه الملائم و لا يأكل الكلب السروق نعالهم و لا يبتغي المخ الذي في الجما شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 89ثم لحق معاوية و هجا عليا ع فقالأ لا من مبلغ عني عليا بأني قد أمنت فلا أخاف عمدت لمستقر الحق لما رأيت أموركم فيها اختلافو روى عبد الملك بن قريب الأصمعي عن ابن أبي الزناد قال دخل النجاشي على معاوية و قد أذن للناس عامة فقال لحاجبه ادع النجاشي و النجاشي بين يديه و لكن اقتحمته عينه فقال ها أنا ذا النجاشي بين يديك يا أمير المؤمنين إن الرجال ليست بأجسامها إنما لك من الرجل أصغراه قلبه و لسانه قال ويحك أنت القائل
و نجا ابن حرب سابح ذو علالة أجش هزيم و الرماح دواني إذا قلت أطراف الرماح تنوشه مرته به الساقان و القدمانثم ضرب بيده إلى ثديه فقال ويحك إن مثلي لا تعدو به الخيل فقال يا أمير المؤمنين إني لم أعنك إنما عنيت عتبة. و روى صاحب كتاب الغارات أن عليا ع لما حد النجاشي غضبت اليمانية لذلك و كان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب النهدي فدخل عليه فقال يا أمير المؤمنين ما كنا نرى أن أهل المعصية و الطاعة و أهل الفرقة و الجماعة عند ولاة العدل و معادن الفضل سيان في الجزاء حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 90فأوغرت صدورنا و شتت أمورنا و حملتنا على الجادة التي كنا نرى أن سبيل من ركبها النار فقال علي ع وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ يا أخا نهد و هل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حدا كان كفارته إن الله تعالى يقول وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى(5/78)
قال فخرج طارق من عنده فلقيه الأشتر فقال يا طارق أنت القائل لأمير المؤمنين أوغرت صدورنا و شتت أمورنا قال طارق نعم أنا قائلها قال و الله ما ذاك كما قلت إن صدورنا له لسامعة و إن أمورنا له لجامعة فغضب طارق و قال ستعلم يا أشتر أنه غير ما قلت فلما جنه الليل همس هو و النجاشي إلى معاوية فلما قدما عليه دخل آذنه فأخبره بقدومهما و عنده وجوه أهل الشام منهم عمرو بن مرة الجهني و عمرو بن صيفي و غيرهما فلما دخلا نظر إلى طارق و قال مرحبا بالمورق غصنه و المعرق أصله المسود غير المسود من رجل كانت منه هفوة و نبوة باتباعه صاحب الفتنة و رأس الضلالة و الشبهة الذي اغترز في ركاب الفتنة حتى استوى على رجلها ثم أوجف في عشوة ظلمتها و تيه ضلالتها و اتبعه رجرجة من الناس و أشبابة من الحثالة لا أفئدة لهم أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها. فقام طارق فقال يا معاوية إني متكلم فلا يسخطك ثم قال و هو متكئ على سيفه إن المحمود على كل حال رب علا فوق عباده فهم منه بمنظر و مسمع بعث فيهم شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 91رسولا منهم يتلو كتابا لم يكن من قبله و لا يخطه بيمينه إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ فعليه السلام من رسول كان لمؤمنين برا رحيما أما بعد فإن ما كنا نوضع فيما أوضعنا فيه بين يدي إمام تقي عادل مع رجال من أصحاب رسول الله ص أتقياء مرشدين ما زالوا منارا للهدى و معالم للدين خلفا عن سلف مهتدين أهل دين لا دنيا كل الخير فيهم و اتبعهم من الناس ملوك و أقيال و أهل بيوتات و شرف ليسوا بناكثين و لا قاسطين فلم يكن رغبة من رغب عنهم و عن صحبتهم إلا لمرارة الحق حيث جرعوها و لوعورته حيث سلكوها و غلبت عليهم دنيا مؤثرة و هو متبع و كان أمر الله قدرا مقدورا و قد فارق الإسلام قبلنا جبلة بن الأيهم فرارا من الضيم و أنفا من الذلة فلا تفخرن يا معاوية إن شددنا نحوك الرحال و أوضعنا إليك الركاب أقول قولي هذا و(5/79)
أستغفر الله العظيم لي و لجميع المسلمين. فعظم على معاوية ما سمعه و غضب لكنه أمسك و قال يا عبد الله إنا لم نرد بما قلناه أن نوردك مشرع ظمأ و لا أن نصدرك عن مكرع ري و لكن القول قد يجري بصاحبه إلى غير ما ينطوي عليه من الفعل ثم أجلسه معه على سريره و دعا له بمقطعات و برود فصبها عليه و أقبل نحوه بوجهه يحدثه حتى قام. و قام معه عمرو بن مرة و عمرو بن صيفي الجهنيان فأقبلا عليه بأشد العتاب و أمضه يلومانه في خطبته و ما واجه به معاوية. فقال طارق و الله ما قمت بما سمعتماه حتى خيل لي أن بطن الأرض خير لي من ظهرها عند سماعي ما أظهر من العيب و النقص لمن هو خير منه في الدنيا و الآخرة و ما زهت به نفسه و ملكه عجبه و عاب أصحاب رسول الله ص و استنقصهم فقمت مقاما أوجب الله علي فيه إلا أقول إلا حقا و أي خير فيمن لا ينظر ما يصير إليه غدا شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 92فبلغ عليا ع قوله فقال لو قتل النهدي يومئذ لقتل شهيدا(5/80)