فلما أوى إلى رحله تبعه عشرة نفر يظن الناس أنهم خوارج فضربوه بأسيافهم و هو على فراشه و لا يظن أن الذي كان يكون فخرج يشتد عريانا فلحقوه في الطريق فقتلوه فأراد زياد أن يناهض ابن الحضرمي حين قتل أعين بجماعة من معه من الأزد و غيرهم من شيعة علي ع فأرسل بنو تميم إلى الأزد و الله ما عرضنا لجاركم إذ أجرتموه و لا لمال هو له و لا لأحد ليس على رأينا فما تريدون شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 48إلى حربنا و إلى جارنا فكان الأزد عند ذلك كرهت قتالهم. فكتب زياد إلى علي ع أما بعد يا أمير المؤمنين فإن أعين بن ضبيعة قدم علينا من قبلك د و مناصحة و صدق و يقين فجمع إليه من أطاعه من عشيرته فحثهم على الطاعة و الجماعة و حذرهم الخلاف و الفرقة ثم نهض بمن أقبل معه إلى من أدبر عنه فواقفهم عامة النهار فهال أهل الخلاف تقدمه و تصدع عن ابن الحضرمي كثير ممن كان يريد نصرته فكان كذلك حتى أمسى فأتى في رحله فبيته نفر من هذه الخارجة المارقة فأصيب رحمه الله تعالى فأردت أن أناهض ابن الحضرمي عند ذلك فحدث أمر قد أمرت صاحب كتابي هذا أن يذكره لأمير المؤمنين و قد رأيت إن رأى أمير المؤمنين ما رأيت أن يبعث إليهم جارية بن قدامة فإنه نافذ البصيرة و مطاع في العشيرة شديد على عدو أمير المؤمنين فإن يقدم يفرق بينهم بإذن الله و السلام على أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته.
فلما جاء الكتاب دعا جارية بن قدامة فقال له يا ابن قدامة تمنع الأزد عاملي و بيت مالي و تشاقني مضر و تنابذني و بنا ابتدأها الله تعالى بالكرامة و عرفها الهدى و تداعوا إلى المعشر الذين حادوا الله و رسوله و أرادوا إطفاء نور الله سبحانه حتى علت كلمة الله و هلك الكافرون(5/41)
فقال يا أمير المؤمنين ابعثني إليهم و استعن بالله عليهم قال قد بعثتك إليهم و استعنت بالله عليهم. قال إبراهيم فحدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني ابن أبي السيف عن سليمان بن أبي راشد عن كعب بن قعين قال خرجت مع جارية من الكوفة إلى البصرة شرح نهج البلاغة ج : 4 : 49في خمسين رجلا من بني تميم ما كان فيهم يماني غيري و كنت شديد التشيع فقلت لجارية إن شئت كنت معك و إن شئت ملت إلى قومي فقال بل معي فو الله لوددت أن الطير و البهائم تنصرني عليهم فضلا عن الإنس. قال و روى كعب بن قعين أن عليا ع كتب مع جارية كتابا و قال أقرئه على أصحابك قال فمضينا معه فلما دخلنا البصرة بدأ بزياد فرحب به و أجلسه إلى جانبه و ناجاه ساعة و ساءله ثم خرج فكان أفضل ما أوصاه به أن قال احذر على نفسك و اتق أن تلقى ما لقي صاحبك القادم قبلك. و خرج جارية من عنده فقام في الأزد فقال جزاكم الله من حي خيرا ما أعظم غناءكم و أحسن بلاءكم و أطوعكم لأميركم لقد عرفتم الحق إذ ضيعه من أنكره و دعوتم إلى الهدى إذ تركه من لم يعرفه ثم قرأ عليهم و على من كان معه من شيعة علي ع و غيرهم كتاب علي ع فإذا فيه(5/42)
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكني البصرة من المؤمنين و المسلمين سلام عليكم أما بعد فإن الله حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة قبل البينة و لا يأخذ المذنب عند أول وهلة و لكنه يقبل التوبة و يستديم الأناة و يرضي بالإنابة ليكون أعظم للحجة و أبلغ في المعذرة و قد كان من شقاق جلكم أيها الناس ما استحققتم أن تعاقبوا عليه فعفوت عن مجرمكم و رفعت السيف عن مدبركم و قبلت من مقبلكم و أخذت بيعتكم فإن تفوا ببيعتي و تقبلوا نصيحتي و تستقيموا على طاعتي أعمل شرح نهج البلاغة ج : 4 ص : 50فيكم بالكتاب السنة و قصد الحق و أقم فيكم سبيل الهدى فو الله ما أعلم أن واليا بعد محمد ص أعلم بذلك مني و لا أعمل بقولي أقول قولي هذا صادقا غير ذام لمن مضى و لا منتقصا لأعمالهم و إن خبطت بكم الأهواء المردية و سفه الرأي الجائر إلى منابذتي تريدون خلافي فها أنا ذا قربت جيادي و رحلت ركابي و ايم الله لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل عندها إلا كلعقة لاعق و إني لظان ألا تجعلوا إن شاء الله على أنفسكم سبيلا و قد قدمت هذا الكتاب إليكم حجة عليكم و لن أكتب إليكم من بعده كتابا إن أنتم استغششتم نصيحتي و نابذتم رسولي حتى أكون أنا الشاخص نحوكم إن شاء الله تعالى و السلام(5/43)
قال فلما قرئ الكتاب على الناس قام صبرة بن شيمان فقال سمعنا و أطعنا و نحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب و لمن سالم سلم إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك و إن أحببت أن ننصرك نصرناك. و قام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك و نحوه فلم يأذن لأحد منهم أن يسير معه و مضى نحو بني تميم. فقام زياد في الأزد فقال يا معشر الأزد إن هؤلاء كانوا أمس سلما فأصبحوا اليوم حربا و إنكم كنتم حربا فأصبحتم سلما و إني و الله ما اخترتكم إلا على التجربة و لا أقمت فيكم إلا على الأمل فما رضيتم أن أجرتموني حتى نصبتم لي منبرا و سريرا و جعلتم لي شرطا و أعوانا و مناديا و جمعة فما فقدت بحضرتكم شيئا إلا هذا الدرهم لا أجبيه اليوم فإن لم أجبه اليوم أجبه غدا إن شاء الله و اعلموا أن حربكم اليوم معاوية أيسر عليكم في الدنيا و الدين من حربكم أمس عليا و قد قدم عليكم جارية بن قدامة و إنما أرسله علي شرح نهج البلة ج : 4 ص : 51ليصدع أمر قومه و الله ما هو بالأمير المطاع و لو أدرك أمله في قومه لرجع إلى أمير المؤمنين أو لكان لي تبعا و أنتم الهامة العظمى و الجمرة الحامية فقدموه إلى قومه فإن اضطر إلى نصركم فسيروا إليه إن رأيتم ذلك. فقام أبو صبرة شيمان فقال يا زياد إني و الله لو شهدت قومي يوم الجمل رجوت ألا يقاتلوا عليا و قد مضى الأمر بما فيه و هو يوم بيوم و أمر بأمر و الله إلى الجزاء بالإحسان أسرع منه إلى الجزاء بالسيئ و التوبة مع الحق و العفو مع الندم و لو كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء و استئناف الأمور و لكنها جماعة دماؤها حرام و جروحها قصاص و نحن معك نحب ما أحببت. فعجب زياد من كلامه و قال ما أظن في الناس مثل هذا. ثم قام صبرة ابنه فقال إنا و الله ما أصبنا بمصيبة في دين و لا دنيا كما أصبنا أمس يوم الجمل و إنا لنرجو اليوم أن نمحص ذلك بطاعة الله و طاعة أمير المؤمنين و أما أنت يا زياد فو الله ما أدركت أملك فينا و لا أدركنا(5/44)
أملنا فيك دون ردك إلى دارك و نحن رادوك إليها غدا إن شاء الله تعالى فإذا فعلنا فلا يكن أحد أولى بك منا فإنك إلا تفعل لم تأت ما يشبهك و إنا و الله نخاف من حرب علي في الآخرة ما لا نخاف من حرب معاوية في الدنيا فقدم هواك و أخر هوانا فنحن معك و طوعك. ثم قام خنقر الحماني فقال أيها الأمير إنك لو رضيت منا بما ترضى به من غيرنا لم نرض ذلك لأنفسنا سر بنا إلى القوم إن شئت و ايم الله ما لقينا قوما قط إلا اكتفينا بعفونا دون جهدنا إلا ما كان أمس.(5/45)