يجوز أن يحول الله تعالى قوة القلب إلى العين فيعلم الله تعالى بها فيكون ذلك الإدراك علما باعتبار أنه بقوة القلب و رؤية باعتبار أنه قد وقع بالمعنى الحال في العين. فهذه الأنواع الأحد عشر هي الأقوال و المذاهب التي يشتمل قوله ع بنفي التشبيه عليها و سيأتي من كلامه ع في نفي التشبيه ما هو أشد تصريحا من الألفاظ التي نحن في شرحها
الفصل الخامس في بيان أن الجاحد له مكابر بلسانه و مثبت له بقلبه
و هو معنى قوله ع فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود. لا شبهة في أن العلم بافتقار المتغير إلى المغير ضروري و العلم بأن المتغير ليس هو المغير شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 239إما أن يكون ضروريا أو قريبا من الضروري فإذا قد شهدت أعلام الوجود ع أن الجاحد لإثبات الصانع إنما هو جاحد بلسانه لا بقلبه لأن العقلاء لا يجحدون الأوليات بقلوبهم و إن كابروا بألسنتهم و لم يذهب أحد من العقلاء إلى نفي الصانع سبحانه. و أما القائلون بأن العالم وجد عن طبيعة و أن الطبيعة هي المدبرة له و القائلون بتصادم الأجزاء في الخلاء الذي لا نهاية له حتى حصل منها هذا العالم و القائلون بأن أصل العالم و أساس بنيته هو النور و الظلمة و القائلون بأن مبادئ العالم هي الأعداد المجردة و القائلون بالهيولى القديمة التي منها حدث العالم و القائلون بعشق النفس للهيولى حتى تكونت منها هذه الأجسام فكل هؤلاء أثبتوا الصانع و إنما اختلفوا في ماهيته و كيفية فعله. و قال قاضي القضاة إن أحدا من العقلاء لم يذهب إلى نفي الصانع للعالم بالكلية و لكن قوما من الوراقين اجتمعوا و وضعوا بينهم مقالة لم يذهب أحد إليها و هي أن العالم قديم لم يزل على هيئته هذه و لا إله للعالم و لا صانع أصلا و إنما هو هكذا ما زال و لا يزال من غير صانع و لا مؤثر. قال و أخذ ابن الراوندي هذه المقالة فنصرها في كتابه المعروف بكتاب التاج قال فأما الفلاسفة القدماء و المتأخرون(4/207)


فلم ينفوا الصانع و إنما نفوا كونه فاعلا بالاختيار و تلك مسألة أخرى قال و القول بنفي الصانع قريب من القول بالسفسطة بل هو هو بعينه لأن من شك في المحسوس أعذر ممن قال إن المتحركات تتحرك من غير محرك حركها. و قول قاضي القضاة هذا هو محض كلام أمير المؤمنين ع و عينه و ليس قول الجاحظ هو هذا لأن الجاحظ يذهب إلى أن جميع المعارف و العلوم الإلهية ضرورية و نحن ما ادعينا في هذا المقام إلا أن العلم بإثبات الصانع فقط هو الضروري فأين أحد القولين من الآخر
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 50240- و من خطبة له عإِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ وَ يَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّهِ فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ وَ لَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ وَ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ يَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى(4/208)


المرتاد الطالب و الضغث من الحشيش القبضة منه قال الله تعالى وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً. يقول ع إن المذاهب الباطلة و الآراء الفاسدة التي يفتتن الناس بها أصلها اتباع الأهواء و ابتداع الأحكام التي لم تعرف يخالف فيها الكتاب و تحمل العصبية و الهوى على تولي أقوام قالوا بها على غير وثيقة من الدين و مستند وقوع هذه الشبهات امتزاج الحق بالباطل في النظر الذي هو الطريق إلى استعلام المجهولات فلو أن النظر تخلص مقدماته و ترتب قضاياه من قضايا باطلة لكان الواقع عنه هو العلم المحض و انقطع عنه ألسن المخالفين و كذلك لو كان النظر تخلص مقدماته من قضايا صحيحة بأن كان كله مبنيا شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 241على الفساد لظهر فساده لطلبة الحق و إنما يقع الاشتباه لامتزاج قضاياه الصادقة بالقضايا الكاذبة. مثال ذلك احتجاج من أجاز الرؤية بأن البارئ تعالى ذات موجودة و كل موجود يصح أن يرى فإحدالمقدمتين حق و الأخرى باطل فالتبس أمر النتيجة على كثير من الناس. و مثال ما يكون المقدمتان جميعا باطلتين قول قوم من الباطنية البارئ لا موجود و لا معدوم و كل ما لا يكون موجودا و لا معدوما يصح أن يكون حيا قادرا فالبارئ تعالى يصح أن يكون حيا قادرا فهاتان المقدمتان جميعا باطلتان لا جرم أن هذه المقالة مرغوب عنها عند العقلاء. و مثال ما تكون مقدماته حقا كلها العالم متغير و كل متغير ممكن فالعالم ممكن فهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء. فإن قيل فما معنى قوله ع فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه و ينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى أ ليس هذا إشعارا بقول المجبرة و تلويحا به. قيل لا إشعار في ذلك بالجبر و مراده ع أنه إذا امتزج في النظر الحق بالباطل و تركبت المقدمات من قضايا صحيحة و فاسدة تمكن الشيطان من الإضلال و الإغواء و وسوس إلى المكلف و خيل له النتيجة الباطلة و أماله إليها و زينها عنده بخلاف ما إذا كانت المقدمات حقا كلها فإنه لا يقدر(4/209)


الشيطان على أن يخيل له ما يخالف العقل الصريح و لا يكون له مجال في تزيين الباطل عنده أ لا ترى أن الأوليات لا سبيل للإنسان إلى جحدها و إنكارها لا بتخييل الشيطان و لا بغير ذلك. شرح نهج البلاغة : 3 ص : 242و معنى قوله على أوليائه أي على من عنده استعداد للجهل و تمرن على اتباع الهوى و زهد في تحقيق الأمور العقلية على وجهها تقليدا للأسلاف و محبة لأتباع المذهب المألوف فذاك هو الذي يستولي عليه الشيطان و يضله و ينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى و هم الذين يتبعون محض العقل و لا يركنون إلى التقليد و يسلكون مسلك التحقيق و ينظرون النظر الدقيق يجتهدون في البحث عن مقدمات أنظارهم و ليس في هذا الكلام تصريح بالجبر و لا إشعار به على وجه من الوجوه و هذا واضح. و حمل الراوندي قوله ع فلو أن الباطل خلص إلى آخره على أن المراد به نفي القياس في الشرع قال لأن القائسين يحملون المسكوت عنه على المنطوق فيمتزج المجهول بالمعلوم فيلتبس و يظن لامتزاج بعضه ببعض حقا و هذا غير مستقيم لأن لفظ الخطبة أن الحق يمتزج بالباطل و أصحاب القياس لا يسلمون أن استخراج العلة من الحكم المعلوم باطل بل يقولون إنه حق و إن الدليل الدال على ورود العبارة بالقياس قد أمنهم من كونه باطلا. و اعلم أن هذا الكلام الذي قاله ع حق إذا تأملته و إن لم تفسره على ما قدمناه من التفسير فإن الذين ضلوا من مقلدة اليهود و النصارى و أرباب المقالات الفاسدة من أهل الملة الإسلامية و غيرها إنما ضل أكثرهم بتقليد الأسلاف و من يحسن الظن فيه من الرؤساء و أرباب المذاهب و إنما قلدهم الأتباع لما شاهدوا من إصلاح ظواهرهم و رفضهم الدنيا و زهدهم فيها و إقبالهم على العبادة و تمسكهم بالدين و أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر و شدتهم في ذات الله و جهادهم في سبيله و قوتهم في شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 243مذاهبهم و صلابتهم في عقائدهم فاعتقد الأتباع و الخلف و القرون التي جاءت(4/210)


بعدهم أن هؤلاء يجب اتباعهم و تحرم مخالفتهم و أن الحق معهم و أن مخالفهم مبتدع ضال فقلدوهم في جميع ما نقل إليهم عنهم و وقع الضل و الغلط بذلك لأن الباطل استتر و انغمر بما مازجه من الحق الغالب الظاهر المشاهد عيانا أو الحكم الظاهر و لولاه لما تروج الباطل و لا كان له قبول أصلا
شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 51244- و من كلام له ع لما غلب أصحاب معاوية أصحابه ع على شريعة الفرات بصفين و منعوهم من الماءقَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَ تَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ وَ الْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ أَلَا وَ إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وَ عَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ
استطعموكم القتال كلمة مجازية و معناها طلبوا القتال منكم كأنه جعل القتال شيئا يستطعم أي يطلب أكله و في الحديث إذا استطعمكم الإمام فأطعموه يعني إمام الصلاة أي إذا ارتج فاستفتحكم فافتحوا عليه و تقول فلان يستطعمني الحديث أي يستدعيه مني و يطلبه. و اللممة بالتخفيف جماعة قليلة. و عمس عليهم الخبر يجوز بالتشديد و يجوز بالتخفيف و التشديد يعطي الكثرة و يفيدها و معناه أبهم عليهم الخبر و جعله مظلما ليل عماس أي مظلم و قد عمس الليل نفسه شرح نهج البلاغة ج : 3 ص : 245بالكسر إذا أظلم و عمسه غيره و عمست عليه عمسا إذا أريته ك لا تعرف الأمر و أنت به عارف. و الأغراض جمع غرض و هو الهدف. و قوله فأقروا على مذلة و تأخير محلة أي أثبتوا على الذل و تأخر المرتبة و المنزلة أو فافعلوا كذا و كذا. و نحو قوله ع فالموت في حياتكم مقهورين قول أبي نصر بن نباتة و الحسين الذي رأى الموت في العز حياة و العيش في الذل قتلا. و قال التهامي(4/211)

10 / 148
ع
En
A+
A-