شَمِلَتْهُمُ الذِّلَّةُ فَهُمْ فِي بَحْرٍ أُجَاجٍ أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ قَدْ وَعَظُوا حَتَّى مَلُّوا وَ قُهِرُوا حَتَّى ذَلُّوا وَ قُتِلُوا حَتَّى قَلُّوا فَلْتَكُنِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ أَصْغَرَ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ وَ قُرَاضَةِ الْجَلَمِ وَ اتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ وَ ارْفُضُوهَا ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ
قال الرضي رحمه الله و هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية و هي من كلام أمير المؤمنين ع الذي لا يشك فيه و أين الذهب من الرغام و أين العذب من الأجاج و قد دل على ذلك الدليل الخريت و نقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب البيان و التبيين و ذكر من نسبها إلى معاوية ثم تكلم من بعدها بكلام في معناها جملته أنه قال و هذا الكلام بكلام علي ع شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 176أشبه و بمذهبه في تصنيف الناس و في الإخبار عما هم عليه من القهر و الإذلال و من التقية و الخوف أليق قال و متى وجا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزهاد و مذاهب العباد(3/156)
دهر عنود جائر عند عن الطريق يعند بالضم أي عدل و جار و يمكن أن يكون من عند يعند بالكسر أي خالف و رد الحق و هو يعرفه إلا أن اسم الفاعل المشهور في ذلك عاند و عنيد و أما عنود فهو اسم فاعل من عند يعند بالضم. قوله و زمن شديد أي بخيل و منه قوله تعالى وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أي و إنه لبخيل لأجل حب الخير و الخير المال و قد روي و زمن كنود و هو الكفور قال تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. و القارعة الخطب الذي يقرع أي يصيب. قوله و نضيض وفره أي قلة ماله و كان الأصل و نضاضة وفره ليكون المصدر في مقابلة المصدر الأول و هو كلالة حده لكنه أخرجه على باب إضافة الصفة إلى الموصوف كقولهم عليه سحق عمامة و جرد قطيفة و أخلاق ثياب. قوله و المجلب بخيله و رجله المجلب اسم فاعل من أجلب عليهم أي أعان عليهم. و الرجل جمع راجل كالركب جمع راكب و الشرب جمع شارب و هذا من ألفاظ الكتاب العزيز وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 177و أشرط نفسه أي هيأها و أعدها للفساد في الأرض. و أوبق دينه أهلكه و الحطام المال و أصله ما تكسر من اليبيس. ينتهزه يختلسه. و المقنب خيل ما بين الثلاثين إلى الأرين. و يفرعه يعلوه و طامن من شخصه أي خفض و قارب من خطوه لم يسرع و مشى رويدا. و شمر من ثوبه قصره و زخرف من نفسه حسن و نمق و زين و الزخرف الذهب في الأصل. و ضئوله نفسه حقارتها و الناد المنفرد و المكعوم من كعمت البعير إذا شددت فمه و الأجاج الملح. و أفواههم ضامزة بالزاي أي ساكنة قال بشر بن أبي خازم
لقد ضمزت بجرتها سليم مخافتنا كما ضمز الحمار(3/157)
و القرظ ورق السلم يدبغ به و حثالته ما يسقط منه. و الجلم المقص تجز به أوبار الإبل و قراضته ما يقع من قرضه و قطعه. فإن قيل بينوا لنا تفصيل هذه الأقسام الأربعة قيل القسم الأول من يقعد به عن طلب الإمرة قلة ماله و حقارته في نفسه. و القسم الثاني من يشمر و يطلب الإمارة و يفسد في الأرض و يكاشف. و القسم الثالث من يظهر ناموس الدين و يطلب به الدنيا. و القسم الرابع من لا مال له أصلا و لا يكاشف و يطلب الملك و لا يطلب الدنيا شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 178بالرياء و الناموس بل تنقطع أسبابه كلها فيخلد إلى القناعة و يتحلى بية الزهادة في اللذات الدنيوية لا طلبا للدنيا بل عجزا عن الحركة فيها و ليس بزاهد على الحقيقة. فإن قيل فهاهنا قسم خامس قد ذكره ع و هم الأبرار الأتقياء الذين أراق دموعهم خوف الآخرة. قيل إنه ع إنما قال إن الناس على أربعة أصناف و عنى بهم من عدا المتقين و لهذا قال لما انقضى التقسيم و بقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع فأبان بذلك عن أن هؤلاء خارجون عن الأقسام الأربعة
فصل في ذكر الآيات و الأخبار الواردة في ذم الرياء و الشهرة
و اعلم أن هذه الخطبة تتضمن الذم الكثير لمن يدعي الآخرة من أهل زماننا و هم أهل الرياء و النفاق و لابسوا الصوف و الثياب المرقوعة لغير وجه الله. و قد ورد في ذم الرياء شي ء كثير و قد ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم. و من الآيات الواردة في ذلك قوله تعالى يُراؤُنَ النّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. و منها قوله تعالى فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 179و منها قوله تعالى إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللِّ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً. و منها قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ(3/158)
و من الأخبار النبوية قوله ص و قد سأله رجل يا رسول الله فيم النجاة فقال ألا تعمل بطاعة الله و تريد بها الناس
و في الحديث من راءى راءى الله به و من سمع سمع الله به
و في الحديث أن الله تعالى يقول للملائكة إن هذا العمل لم يرد صاحبه به وجهي فاجعلوه في سجين
و قال ص إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا و ما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء يقول الله تعالى إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم في الدنيا فاطلبوا جزاءكم منهم
و في حديث شداد بن أوس رأيت النبي ص يبكي فقلت يا رسول الله ما يبكيك فقال إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون صنما و لا شمسا و لا قمرا و لكنهم يراءون بأعمالهم
و رأى عمر رجلا يتخشع و يطأطئ رقبته في مشيته فقال له يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب. و رأى أبو أمامة رجلا في المسجد يبكي في سجوده فقال له أنت أنت لو كان هذا في بيتك. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 18 و قال علي ع للمرائي أربع علامات يكسل إذا كان وحده و ينشط إذا كان في الناس و يزيد في العمل إذا أثني عليه و ينقص منه إذا لم يثن عليه(3/159)
و قال رجل لعبادة بن الصامت أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجهه و محمدة الناس قال لا شي ء لك فسأله ثلاث مرات كل ذلك يقول لا شي ء لك ثم قال في الثالثة يقول الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك الحديث. و ضرب عمر رجلا بالدرة ثم ظهر له أنه لم يأت جرما فقاله اقتص مني فقال بل أدعها لله و لك قال ما صنعت شيئا إما أن تدعها لي فأعرف ذلك لك أو تدعها لله وحده. و قال الحسن لقد صحبت أقواما إن كان أحدهم لتعرض له الكلمة لو نطق بها لنفعته و نفعت أصحابه ما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة و إن كان أحدهم ليمر فيرى الأذى على الطريق فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة. و قال الفضيل كانوا يراءون بما يعملون و صاروا اليوم يراءون بما لا يعملون. و قال عكرمة إن الله تعالى يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لأن النية لا رياء فيها. و قال الحسن المرائي يريد أن يغلب قدر الله تعالى هو رجل سوء يريد أن يقول الناس هذا صالح و كيف يقولون و قد حل من ربه محل الأردئاء فلا بد لقلوب المؤمنين أن تعرفه. و قال قتادة إذا راءى العبد قال الله تعالى لملائكته انظروا إلى عبدي يستهزئ بي. و قال الفضيل من أراد أن ينظر مرائيا فلينظر إلي شرح نهج البلاغة ج : ص : 181و قال محمد بن المبارك الصوري أظهر السمت بالليل فإنه أشرف من سمتك بالنهار فإن سمت النهار للمخلوقين و سمت الليل لرب العالمين. و قال إبراهيم بن أدهم ما صدق الله من أحب أن يشتهر.
و من الكلام المعزو إلى عيسى ابن مريم ع إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه و لحيته و ليمسح شفتيه لئلا يعلم الناس أنه صائم و إذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله و إذا صلى فليرخ ستر بابه فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق
و من كلام بعض الصالحين آخر ما يخرج من رءوس الصديقين حب الرئاسة.(3/160)