و منا الذي اختير الرجال سماحة و جودا إذا هب الرياح الزعازع و منا الذي أحيا الوئيد و غالب و عمرو و منا حاجب و الأقارع و منا الذي قاد الجياد على الوجا بنجران حتى صبحته الترائع و منا الذي أعطى الرسول عطية أسارى تميم و العيون هواالترائع الكرام من الخيل يعني غزاة الأقرع بن حابس قبل الإسلام بني تغلب بنجران و هو الذي أعطاه الرسول يوم حنين أسارى تميم.
و منا غداة الروع فرسان غارة إذا منعت بعد الزجاج الأشاجع و منا خطيب لا يعاب و حامل أغر إذا التفت عليه المجامعأي إذا مدت الأصابع بعد الزجاج إتماما لها لأنها رماح قصيرة و حامل أي حامل للديات شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 4أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع بهم أعتلي ما حملتنيه دارم و أصرع أقراني الذين أصارع أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها و النجوم الطوالع فوا عجبا حتى كليب تسبني كأن أباها نهشل أو مجا قال الرضي رحمه الله و رأيت كلامه ع يدور على أقطاب ثلاثة أولها الخطب و الأوامر و ثانيها الكتب و الرسائل و ثالثها الحكم و المواعظ فأجمعت بتوفيق الله سبحانه على الابتداء باختيار محاسن الخطب ثم محاسن الكتب ثم محاسن الحكم و الأدب مفردا لكل صنف من ذلك بابا و مفصلا فيه أوراقا ليكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عني عاجلا و يقع إلي آجلا و إذا جاء شي ء من كلامه الخارج في أثناء حوار أو جواب سؤال أو غرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها و قررت القاعدة عليها نسبته إلى أليق الأبواب به و أشدها ملامحة لغرضه و ربما اء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة و محاسن كلم غير منتظمة لأني أورد النكت و اللمع و لا أقصد التتالي و النسق(2/37)


قوله أجمعت على الابتداء أي عزمت و قال القطب الراوندي تقديره أجمعت عازما على الابتداء قال لأنه لا يقال إلا أجمعت الأمر و لا يقال أجمعت على الأمر قال سبحانه فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 49هذا الذي ذكره الراوندي خلاف نص أهل اللغة قالواجمعت الأمر و على الأمر كله جائز نص صاحب الصحاح على ذلك. و المحاسن جمع حسن على غير قياس كما قالوا الملامح و المذاكر و مثله المقابح و الحوار بكسر الحاء مصدر حاورته أي خاطبته و الأنحاء الوجوه و المقاصد و أشدها ملامحة لغرضه أي أشدها إبصارا له و نظرا إليه من لمحت الشي ء و هذه استعارة يقال هذا الكلام يلمح الكلام الفلاني أي يشابهه كان ذلك الكلام يلمح و يبصر من هذا الكلام قال الرضي رحمه الله و من عجائبه ع التي انفرد بها و أمن المشاركة فيها أن كلامه الوارد في الزهد و المواعظ و التذكير و الزواجر إذا تأمله المتأمل و فكر فيه المفكر و خلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره و نفذ أمره و أحاط بالرقاب ملكه لم يعترضه الشك في أنه كلام من لا حظ له في غير الزهادة و لا شغل له بغير العبادة قد قبع في كسر بيت أو انقطع إلى سفح جبل لا يسمع إلا حسه و لا يرى إلا نفسه و لا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتا سيفه فيقط الرقاب و يجدل الأبطال و يعود به ينطف دما و يقطر مهجا و هو مع تلك الحال زاهد الزهاد و بدل الأبدال و هذه من فضائله العجيبة و خصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد و ألف بين الأشتات و كثيرا ما أذاكر الإخوان بها و أستخرج عجبهم منها و هي موضع العبرة بها و الكفرة فيها(2/38)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 50قبع القنفذ يقبع قبوعا إذا أدخل رأسه في جلده و كذلك الرجل إذا أدخل رأسه في قميصه و كل من انزوى في جحر أو مكان ضيق فقد قبع و كسر البيت جانب الخباء و سفح الجبل أسفله و أصله حيث يسفح فيه الماء و يقط الرقاب يقطعها عرضا لا طولا كما له الراوندي و إنما ذاك القد قددته طولا و قططته عرضا قال ابن فارس صاحب المجمل قال ابن عائشة كانت ضربات علي ع في الحرب أبكارا إن اعتلى قد و إن اعترض قط و يجدل الأبطال يلقيهم على الجدالة و هي وجه الأرض و ينطف دما يقطر و الأبدال قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر قد ورد ذلك في كثير من كتب الحديث. كان أمير المؤمنين ع ذا أخلاق متضادة فمنها ما قد ذكره الرضي رحمه الله و هو موضع التعجب لأن الغالب على أهل الشجاعة و الإقدام و المغامرة و الجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية و فتك و تمرد و جبرية و الغالب على أهل الزهد و رفض الدنيا و هجران ملاذها و الاشتغال بمواعظ الناس و تخويفهم المعاد و تذكيرهم الموت أن يكونوا ذوي رقة و لين و ضعف قلب و خور طبع و هاتان حالتان متضادتان و قد اجتمعتا له ع. و منها أن الغالب على ذوي الشجاعة و إراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سبعية و طباع حوشية و غرائز وحشية و كذلك الغالب على أهل الزهادة و أرباب الوعظ و التذكير و رفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق و عبوس في الوجوه و نفار من الناس شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 51و استيحاش و أمير المؤمنين ع كان أشجع الناس و أعظمهم إرة للدم و أزهد الناس و أبعدهم عن ملاذ الدنيا و أكثرهم وعظا و تذكيرا بأيام الله و مثلاته و أشدهم اجتهادا في العبادة و آدابا لنفسه في المعاملة و كان مع ذلك ألطف العالم أخلاقا و أسفرهم وجها و أكثرهم بشرا و أوفاهم هشاشة و أبعدهم عن انقباض موحش أو خلق نافر أو تجهم مباعد أو غلظة و فظاظة تنفر معهما نفس أو يتكدر معهما قلب حتى عيب(2/39)


بالدعابة و لما لم يجدوا فيه مغمزا و لا مطعنا تعلقوا بها و اعتمدوا في التنفير عنه عليها
و تلك شكاة ظاهر عنك عارها
و هذا من عجائبه و غرائبه اللطيفة. و منها أن الغالب على شرفاء الناس و من هو من أهل بيت السيادة و الرئاسة أن يكون ذا كبر و تيه و تعظم و تغطرس خصوصا إذا أضيف إلى شرفه من جهة النسب شرفه من جهات أخرى و كان أمير المؤمنين ع في مصاص الشرف و معدنه و معانيه لا يشك عدو و لا صديق أنه أشرف خلق الله نسبا بعد ابن عمه ص و قد حصل له من الشرف غير شرف النسب جهات كثيرة متعددة قد ذكرنا بعضها و مع ذلك فكان أشد الناس تواضعا لصغير و كبير و ألينهم عريكة و أسمحهم خلقا و أبعدهم عن الكبر و أعرفهم بحق و كانت حاله هذه في كلا زمانيه زمان خلافته شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 52و الزمان الذي قبله لم تغيره الإمرة و لا أحالت خلقه الرئاسة و كيف تحيل الرئاسة خلقه و ما زال رئيسا و كيف تغير الإمرة سجيته و ما برح أميرا لم يستفد بالخلافة شرفا و لا اكتسب بها زينة بل هو كما قال أبو عبد الله أحمد بن حنبذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم تذاكروا عند أحمد خلافة أبي بكر و علي و قالوا فأكثروا فرفع رأسه إليهم و قال قد أكثرتم أن عليا لم تزنه الخلافة و لكنه زانها و هذا الكلام دال بفحواه و مفهومه على أن غيره ازدان بالخلافة و تممت نقصه و أن عليا ع لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يتمم بالخلافة و كانت الخلافة ذات نقص في نفسها فتم نقصها بولايته إياها. و منها أن الغالب على ذوي الشجاعة و قتل الأنفس و إراقة الدماء أن يكونوا قليلي الصفح بعيدي العفو لأن أكبادهم واغرة و قلوبهم ملتهبة و القوة الغضبية عندهم شديدة و قد علمت حال أمير المؤمنين ع في كثرة إراقة الدم و ما عنده من الحلم و الصفح و مغالبة هوى النفس و قد رأيت فعله يوم الجمل و لقد أحسن مهيار في قوله(2/40)


حتى إذا دارت رحى بغيهم عليهم و سبق السيف العذل عاذوا بعفو ماجد معود للعفو حمال لهم على العلل فنجت البقيا عليهم من نجا و أكل الحديد منهم من أكل أطت بهم أرحامهم فلم يطع ثائرة الغيظ و لم يشف الغو منها أنا ما رأينا شجاعا جوادا قط كان عبد الله بن الزبير شجاعا و كان أبخل الناس و كان الزبير أبوه شجاعا و كان شحيحا قال له عمر لو وليتها لظلت تلاطم الناس شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 53في البطحاء على الصاع و المد و أراد علي ع أن يحجر على عبد الله بن جعفر لذيره المال فاحتال لنفسه فشارك الزبير في أمواله و تجاراته فقال ع أما إنه قد لاذ بملاذ و لم يحجر عليه و كان طلحة شجاعا و كان شحيحا أمسك عن الإنفاق حتى خلف من الأموال ما لا يأتي عليه الحصر و كان عبد الملك شجاعا و كان شحيحا يضرب به المثل في الشح و سمي رشح الحجر لبخله و قد علمت حال أمير المؤمنين ع في الشجاعة و السخاء كيف هي و هذا من أعاجيبه أيضا ع(2/41)

9 / 150
ع
En
A+
A-