شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 30126- و من خطبة له ع في معنى قتل عثمانلَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قَاتِلًا أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ لَكُنْتُ نَاصِراً غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وَ مَنْ خَذَلَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَ أَنَا جَامِعٌ لَكُمْ أَمْرَهُ اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الْأَثَرَةَ وَ جَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ الْجَزَعَ وَ لِلَّهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَأْثِرِ وَ الْجَازِعِ(3/111)
هذا الكلام بظاهره يقتضي أنه ما أمر بقتله و لا نهى عنه فيكون دمه عنده في حكم الأمور المباحة التي لا يؤمر بها و لا ينهى عنها غير أنه لا يجوز أن يحمل الكلام على ظاهره لما ثبت من عصمة دم عثمان و أيضا فقد ثبت في السير و الأخبار أنه كان ع ينهى الناس عن قتله فإذن يجب أن يحمل لفظ النهي على المنع كما يقال الأمير ينهى عن نهب أموال الرعية أي يمنع و حينئذ يستقيم الكلام لأنه ع ما أمر بقتله و لا منع عن قتله و إنما كان ينهى عنه باللسان و لا يمنع عنه باليد. فإن قيل فالنهي عن المنكر واجب فهلا منع من قتله باليد. قيل إنما يجب المنع باليد عن المنكر إذا كان حسنا و إنما يكون الإنكار حسنا شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 127إذا لم يغلب على ظن الناهي عن المنكر أن نهيه لا يؤثر فإن غلب على ظنه أن نهيه لا يؤثر قبح إنكار المنكر لأنه إن كان الغرض تعريف فاعل القبيح قبح ما أقدم عليه فذلك حاصل دون الإنكار و إن كان الغرض ألا يقع المنكر فذلك غير حاصل لأنه قد غلب على ظنه أن نهيه و إنكاره لا يؤثر و لذلك لا يحسن من الإنسان الإنكار على أصحاب المآصر ما هم عليه من أخذ المكوس لما غلب على الظن أن الإنكار لا يؤثر و هذا يقتضي أن يكون أمير المؤمنين ع قد غلب على ظنه أن إنكاره لا يؤثر فلذلك لم ينكر. و لأجل اشتباه هذا الكلام على السامعين قال كعب بن جعيل شاعر أهل الشام الأبيات التي منها
أرى الشام تكره أهل العراق و أهل العراق لهم كارهوناو كل لصاحبه مبغض يرى كل ما كان من ذاك ديناإذا ما رمونا رميناهم و دناهم مثل ما يقرضوناو قالوا علي إمام لنا فقلنا رضينا ابن هند رضيناو قالوا نرى أن تدينوا لنا فقلنا ألا لا نرى أن نديناو من دون ذلك خرط القتاد و طعن و ضرب يقر العيونا(3/112)
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 128و كل يسر بما عنده يرى غث ما في يديه سميناو ما في علي لمستعتب مقال سوى ضمه المحدثيناو إيثاره اليوم أهل الذنوب و رفع القصاص عن القاتليناإذا سيل عنه حذا شبهة و عمى الجواب على السائلينافليس براض و لا ساخط و لا في النهاة و لا الآيناو لا هو ساء و لا سره و لا بد من بعض ذا أن يكونا
و هذا شعر خبيث منكر و مقصد عميق و ما قال هذا الشعر إلا بعد أن نقل إلى أهل الشام كلام كثير لأمير المؤمنين ع في عثمان يجري هذا المجرى نحو قوله ما سرني و لا ساءني و قيل له أ رضيت بقتله فقال لم أرض فقيل له أ سخطت قتله فقال لم أسخط و قوله تارة الله قتله و أنا معه و قوله تارة أخرى ما قتلت عثمان و لا مالأت في قتله و قوله تارة أخرى كنت رجلا من المسلمين أوردت إذ أوردوا و أصدرت إذ أصدروا. و لكل شي ء من كلامه إذا صح عنه تأويل يعرفه أولو الألباب. فأما قوله غير أن من نصره فكلام معناه أن خاذليه كانوا خيرا من ناصريه لأن لذين نصروه كان أكثرهم فساقا كمروان بن الحكم و أضرابه و خذله المهاجرون و الأنصار. فأما قوله و أنا جامع لكم أمره إلى آخر الفصل فمعناه أنه فعل ما لا يجوز و فعلتم ما لا يجوز أما هو فاستأثر فأساء الأثرة أي استبد بالأمور فأساء في الاستبداد و أما أنتم فجزعتم مما فعل أي حزنتم فأسأتم الجزع لأنكم قتلتموه و قد كان الواجب عليه أن شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 129يرجع عن استئثاره و كان الواجب عليكم ألا تجعلوا جزاءه عما أذنب القتل بل الخلع و الحبس و ترتيب غيره في الإمامة. ثم قال و لله حكم سيحكم به فيه و فيكماضطراب الأمر على عثمان ثم أخبار مقتله(3/113)
و يجب أن نذكر في هذا الموضع ابتداء اضطراب الأمر على عثمان إلى أن قتل. و أصح ما ذكر في ذلك ما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ. و خلاصة ذلك أن عثمان أحدث أحداثا مشهورة نقمها الناس عليه من تأمير بني أمية و لا سيما الفساق منهم و أرباب السفه و قلة الدين و إخراج مال الفي ء إليهم و ما جرى في أمر عمار و أبي ذر و عبد الله بن مسعود و غير ذلك من الأمور التي جرت في أواخر خلافته ثم اتفق أن الوليد بن عقبة لما كان عامله على الكوفة و شهد عليه بشرب الخمر صرفه و ولى سعيد بن العاص مكانه فقدم سعيد الكوفة و استخل من أهلها قوما يسمرون عنده فقال سعيد يوما إن السواد بستان للقريش و بني أمية فقال الأشتر النخعي و تزعم أن السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك و لقومك فقال صاحب شرطته أ ترد على الأمير مقالته و أغلظ له فقال الأشتر لمن كان حوله من النخع و غيرهم من أشراف الكوفة أ لا تسمعون فوثبوا عليه بحضرة سعيد فوطئوه وطأ عنيفا و جروا برجله فغلظ ذلك على سعيد و أبعد سماره فلم يأذن بعد لهم فجعلوا يشتمون سعيدا في مجالسهم ثم تعدوا ذلك إلى شتم عثمان و اجتمع إليهم ناس كثير حتى غلظ أمرهم فكتب سعيد إلى عثمان في أمرهم فكتب إليه أن يسيرهم إلى الشام لئلا يفسدوا أهل الكوفة و كتب إلى معاوية و هو والي الشام أن نفرا من أهل الكوفة شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 130قد هموا بإثارة الفتنة و قد سيرتهم إليك فانههم فإن آنست منهم رشدا فأحسن إليهم و ارددهم إلى بلادهم فلما قدموا على معاويو كانوا الأشتر و مالك بن كعب الأرحبي و الأسود بن يزيد النخعي و علقمة بن قيس النخعي و صعصعة بن صوحان العبدي و غيرهم جمعهم يوما و قال لهم إنكم قوم من العرب ذوو أسنان و ألسنة و قد أدركتم بالإسلام شرفا و غلبتم الأمم و حويتم مواريثهم و قد بلغني أنكم ذممتم قريشا و نقمتم على الولاة فيها و لو لا قريش لكنتم أذلة إن أئمتكم لكم جنة(3/114)
فلا تفرقوا عن جنتكم إن أئمتكم ليصبرون لكم على الجور و يحتملون منكم العتاب و الله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم الخسف و لا يحمدكم على الصبر ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم و بعد وفاتكم. فقال له صعصعة بن صوحان أما قريش فإنها لم تكن أكثر العرب و لا أمنعها في الجاهلية و إن غيرها من العرب لأكثر منها كان و أمنع. فقال معاوية إنك لخطيب القوم و لا أرى لك عقلا و قد عرفتكم الآن و علمت أن الذي أغراكم قلة العقول أعظم عليكم أمر الإسلام فتذكرني الجاهلية أخزى الله قوما عظموا أمركم فقهوا عني و لا أظنكم تفقهون إن قريشا لم تعز في جاهلية و لا إسلام إلا بالله وحده لم تكن بأكثر العرب و لا أشدها و لكنهم كانوا أكرمهم أحسابا و أمحضهم أنسابا و أكملهم مروءة و لم يمتنعوا في الجاهلية و الناس يأكل بعضهم بعضا إلا بالله فبوأهم حرما آمنا يتخطف الناس من حوله هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا إلا و قد أصابهم الدهر في بلدهم و حرمهم إلا ما كان من قريش فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل حتى أراد الله تعالى أن يستنقذ من أكرمه باتباع دينه من هوان الدنيا و سوء مرد الآخرة فارتضى لذلك خير(3/115)