همه آمر امرؤ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام جمله فإن قاده إلى طاعة الله تبعه و إن قاده إلى معصية الله كفه إننا و الله ما خلقنا للفناء و إنما خلقنا للبقاء و إنما ننتقل من دار إلى دار. و خطب يوما فقال إن الله أمرنا بطلب الآخرة و كفانا مئونة الدنيا فليته كفانا مئونة الآخرة و أمرنا بطلب الدنيا فقال الحسن ضالة المؤمن خرجت من قلب المنافق. و من الكلام المنسوب إليه و أكثر الناس يروونه
عن أمير المؤمنين ع أيها الناس اقدعوا هذه الأنفس فإنها أسأل شي ء إذا أعطيت و أبخل لشي ء إذا سئلت فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاما و زماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله و عطفها بزمامها عن معصية الله فإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب اللهو من كلامه أن امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيها ربه و يستغفر من ذنبه و يفكر في معاده لجدير أن يطول حزنه و يتضاعف أسفه إن الله كتب على الدنيا الفناء و على الآخرة البقاء فلا بقاء لما كتب عليه الفناء و لا فناء لما كتب عليه البقاء فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة و اقهروا طول الأمل بقصر الأجل. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 103و نقلت من أمالي أبي أحمد العسكري رحمه الله تعالى قال خطب الحجاج يوما فقال أيها الناس قد أصبحتم في أجل منقوص و عمل محفوظ رب دائب مضيع و ساع لغيره و الموت في أعقابكم و النار بين أيدم و الجنة أمامكم خذوا من أنفسكم لأنفسكم و من غناكم لفقركم و مما في أيديكم لما بين أيديكم فكان ما قد مضى من الدنيا لم يكن و كان الأموات لم يكونوا أحياء و كل ما ترونه فإنه ذاهب هذه شمس عاد و ثمود و قرون كثيرة بين ذلك هذه الشمس التي طلعت على التبابعة و الأكاسرة و خزائنهم السائرة بين أيديهم و قصورهم المشيدة ثم طلعت على قبورهم أين الملوك الأولون أين الجبابرة المتكبرون المحاسب الله و الصراط منصوب و جهنم تزفر و تتوقد و أهل الجنة ينعمون هم في روضة يحبرون(3/91)
جعلنا الله و إياكم من الذين إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً. قال فكان الحسن رحمه الله تعالى يقول أ لا تعجبون من هذا الفاجر يرقى عتبات المنبر فيتكلم بكلام الأنبياء و ينزل فيفتك فتك الجبارين يوافق الله في قوله و يخالفه في فعله
استطراد بلاغي في الكلام على المقابلة
و أما ما ذكره الرضي رحمه الله تعالى من المقابلة بين السبقة و الغاية فنكته جيدة من علم البيان و نحن نذكر فيها أبحاثا نافعة فنقول إما أن يقابل الشي ء ضده أو ما ليس بضده. فالأول كالسواد و البياض و هو قسمان أحدهما مقابله في اللفظ و المعنى. شرح نهج البلاغة ج2 ص : 104و الثاني مقابله في المعنى لا في اللفظ. أما الأول فكقوله تعالى فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً فالضحك ضد البكاء و القليل ضد الكثير و كذلك قوله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ و من كلام النبي ص خير المال عين ساهرة لعين نائمة
و من كلام أمير المؤمنين ع لعثمان أن الحق ثقيل مري ء و أن الباطل خفيف وبي ء و أنت رجل إن صدقت سخطت و إن كذبت رضيت و كذلك قوله ع لما قالت الخوارج لا حكم إلا لله كلمة حق أريد بها باطل(3/92)
و قال الحجاج لسعيد بن جبير لما أراد قتله ما اسمك فقال سعيد بن جبير فقال بل شقي بن كسير. و قال ابن الأثير في كتابه المسمى بالمثل السائر إن هذا النوع من المقابلة غير مختص بلغة العرب فإنه لما مات قباذ أحد ملوك الفرس قال وزيره حركنا بسكونه. و في أول كتاب الفصول لبقراط في الطب العمر قصير و الصناعة طويلة و هذا الكتاب على لغة اليونان. قلت أي حاجة به إلى هذا التكلف و هل هذه الدعوى من الأمور التي يجوز أن يعتري الشك و الشبهة فيها ليأتي بحكاية مواضع من غير كلام العرب يحتج بها أ ليس كل قبيلة و كل أمة لها لغة تختص بها أ ليس الألفاظ دلالات على ما في الأنفس شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 105من المعاني فإذا خطر في النفس كلام يتضمن أمرين ضدين فلا بد لصاحب ذلك الخاطر سواء أ كان عربيا أم فارسيا أم زنجيا أم حبشيا أن ينطق بلفظ يدل على تلك المعاني المتضادة و هذا أمر يعم العقلاء كلهملى أن تلك اللفظة التي قالها ما قيلت في موت قباذ و إنما قيلت في موت الإسكندر لما تكلمت الحكماء و هم حول تابوته بما تكلموا به من الحكم. و مما جاء من هذا القسم من المقابلة في الكتاب العزيز قوله تعالى في صفة الواقعة خافِضَةٌ رافِعَةٌ لأنها تخفض العاصين و ترفع المطيعين. و قوله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ. و قوله أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ. و من هذا الباب
قول النبي ص للأنصار إنكم لتكثرون عند الفزع و تقلون عند الطمع
و مما جاء من ذلك في الشعر قول الفرزدق يهجو قبيلة جرير
يستيقظون إلى نهيق حميرهم و تنام أعينهم عن الأوتار
و قال آخر
فلا الجود يفني المال و الجد مقبل و لا البخل يبقي المال و الجد مدبر
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 106و قال أبو تمامما إن ترى الأحساب بيضا وضحا إلا بحيث ترى المنايا سودا(3/93)
و كذلك قال من هذه القصيدة أيضا
شرف على أولى الزمان و إنما خلق المناسب ما يكون جديدا
و أما القسم الثاني من القسم الأول و هو مقابلة الشي ء بضده بالمعنى لا باللفظ فكقول المقنع الكندي لهم جل مالي إن تتابع لي غنى و إن قل مالي لا أكلفهم رفدا
فقوله إن تتابع لي غنى في قوة قوله إن كثر مالي و الكثرة ضد القلة فهو إذن مقابل بالمعنى لا باللفظ بعينه. و من هذا الباب قول البحتري
تقيض لي من حيث لا أعلم النوى و يسري إلي الشوق من حيث أعلم
فقوله لا أعلم ليس ضدا لقوله أعلم لكنه نقيض له و في قوة قوله أجهل و الجهل ضد العلم. و من لطيف ما وقعت المقابلة به من هذا النوع قول أبي تمام
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس قنا الخط إلا أن تلك ذوابل(3/94)
شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 107فقابل بين هاتا و بين تلك و هي مقابلة معنوية لا لفظية لأن هاتا للحاضرة و تلك للغائبة و الحضور ضد الغيبة. و أما مقابلة الشي ء لما ليس بضده فإما أن يكون مثلا أو مخالفا. و الأول على ضربين مقابلة المفرد بالمفرد و مقابلة الجملة بملة. مثال مقابلة المفرد بالمفرد قوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ و قوله وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً هكذا قال نصر الله بن الأثير. قال و هذا مراعى في القرآن الكريم إذا كان جوابا كما تقدم من الآيتين و كقوله وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها و قوله مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ. قال و قد كان يجوز أن يقول من كفر فعليه ذنبه لكن الأحسن هو إعادة اللفظ فأما إذا كان غير جواب لم تلزم فيه هذه المراعاة اللفظية بل قد تقابل اللفظة بلفظة تفيد معناها و إن لم تكن هي بعينها نحو قوله تعالى وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فقال يفعلون و لم يقل يعملون. و كذلك قوله تعالى فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ و لم يقل قالوا لا تفزع. و كذلك قوله تعالى إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ و لم يقل كنتم تخوضون و تلعبون. شرح نهج البلاغة ج : 2 ص : 108قال و نحو ذلك من الأبيات الشعرية قول أبي تمامبسط الرجاء لنا برغم نوائب كثرت بهن مصارع الآمال
فقال الآمال عوض الرجاء قال أبو الطيب
إني لأعلم و اللبيب خبير أن الحياة و إن حرصت غرور(3/95)