و غيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه و يستوفقه سواء أ كان مطابقا للشرع أم لم يكن و لا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده و لا يقف مع ضوابط و قيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب و من كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب. و أما السياسة فإنه كان شديد السياسة خشنا في ذات الله لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه و لا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به و أحرق قوما بالنار و نقض دار مصقلة بن هبيرة و دار جرير بن عبد الله البجلي و قطع جماعة و صلب آخرين. و من جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل و صفين و النهروان و في أقل القليل منها مقنع فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه و بطشه و انتقامه مبلغ العشر مما فعل ع في هذه الحروب بيده و أعوانه. فهذه هي خصائص البشر و مزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الإمام المتبع فعله و الرئيس المقتفى أثره. و ما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة و تعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة و تصور ملوك الفرنج و الروم صورته في بيعها و بيوت عباداتها شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 29حاملا سيفه مشمرا لحربه و تصور ملوك الترك و الديلصورته على أسيافها كان على سيف عضد الدولة بن بويه و سيف أبيه ركن الدولة صورته و كان على سيف ألب أرسلان و ابنه ملكشاه صورته كأنهم يتفاءلون به النصر و الظفر. و ما أقول في رجل أحب كل واحد أن يتكثر به و ود كل أحد أن يتجمل و يتحسن بالانتساب إليه حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها ألا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه و صنفوا في ذلك كتبا و جعلوا لذلك إسنادا أنهوه إليه و قصروه عليه و سموه سيد الفتيان و عضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المروي أنه سمع من السماء يوم أحد
لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي(2/22)
و ما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء و شيخ قريش و رئيس مكة قالوا قل أن يسود فقير و ساد أبو طالب و هو فقير لا مال له و كانت قريش تسميه الشيخ. و في حديث عفيف الكندي لما رأى النبي ص يصلي في مبدإ الدعوة و معه غلام و امرأة قال فقلت للعباس أي شي ء هذا قالهذا ابن أخي يزعم أنه رسول من الله إلى الناس و لم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام و هو ابن أخي أيضا و هذه الامرأة و هي زوجته قال فقلت ما الذي تقولونه أنتم قال ننتظر ما يفعل الشيخ يعنى أبا طالب و أبو طالب هو الذي كفل رسول الله ص صغيرا و حماه و حاطه كبيرا و منعه من مشركي قريش و لقي لأجله عنتا عظيما و قاسى بلاء شديدا و صبر على نصره و القيام بأمره و جاء في الخبر أنه لما توفي أبو طالب أوحي إليه ع و قيل له اخرج منها فقد مات ناصرك. و له مع شرف هذه الأبوة أن ابن عمه محمد سيد الأولين و الآخرين و أخاه جعفر ذو الجناحين الذي
قال له رسول الله ص أشبهت خلقي و خلقي
فمر يحجل شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 30فرحا و زوجته سيدة نساء العالمين و ابنيه سيدا شباب أهل الجنة فآباؤه آباء رسول الله و أمهاته أمهات رسول الله و هو مسوط بلحمه و دمه لم يفارقه منذ خلق الله آدم إلى أن مات عبد المطلب بين الأخوين عبد الله و أبي طالب و أمهمااحدة فكان منهما سيد الناس هذا الأول و هذا التالي و هذا المنذر و هذا الهادي. و ما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى و آمن بالله و عبده و كل من في الأرض يعبد الحجر و يجحد الخالق لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير محمد رسول الله ص. ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه ع أول الناس اتباعا لرسول الله ص إيمانا به و لم يخالف في ذلك إلا الأقلون
و قد قال هو ع أنا الصديق الأكبر و أنا الفاروق الأول أسلمت قبل إسلام الناس و صليت قبل صلاتهم(2/23)
و من وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق ذلك و علمه واضحا و إليه ذهب الواقدي و ابن جرير الطبري و هو القول الذي رجحه و نصره صاحب كتاب الإستيعاب. و لأنا إنما نذكر في مقدمة هذا الكتاب جملة من فضائله عنت بالعرض لا بالقصد وجب أن نختصر و نقتصر فلو أردنا شرح مناقبه و خصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يماثل حجم هذا بل يزيد عليه و بالله التوفيق
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 31القول في نسب الرضي أبي الحسن رحمه الله و ذكر طرف من خصائصه و مناقبههو أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق ع مولده سنة تسع و خمسين و ثلاثمائة. و كان أبوه النقيب أبو أحمد جليل القدر عظيم المنزلة في دولة بني العباس و دولة بني بويه و لقب بالطاهر ذي المناقب و خاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بويه بالطاهر الأوحد و ولي نقابة الطالبيين خمس دفعات و مات و هو متقلدها بعد أن حالفته الأمراض و ذهب بصره و توفي عن سبع و تسعين سنة فإن مولده كان في سنة أربع و ثلاثمائة و توفي سنة أربعمائة و قد ذكر ابنه الرضي أبو الحسن كمية عمره في قصيدته التي رثاه بها و أولها
و سمتك حالية الربيع المرهم و سقتك ساقية الغمام المرزم سبع و تسعون اهتبلن لك العدا حتى مضوا و غبرت غير مذمم لم يلحقوا فيها بشأوك بعد ما أملوا فعاقهم اعتراض الأزلم إلا بقايا من غبارك أصبحت غصصا و أقذاء لعين أو فم إن يتبعوا عقبيك في طلب العلا فالذئب يعسل ريق الضيغم(2/24)
و دفن النقيب أبو أحمد أولا في داره ثم نقل منها إلى مشهد الحسين ع. و هو الذي كان السفير بين الخلفاء و بين الملوك من بني بويه و الأمراء من بنى حمدان و غيرهم و كان مبارك الغرة ميمون النقيبة مهيبا نبيلا ما شرع في إصلاح أمر فاسد شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 32إلو صلح على يديه و انتظم بحسن سفارته و بركة همته و حسن تدبيره و وساطته و لاستعظام عضد الدولة أمره و امتلاء صدره و عينه به حين قدم العراق ما قبض عليه و حمله إلى القلعة بفارس فلم يزل بها إلى أن مات عضد الدولة فأطلقه شرف الدولة أبو الفوارس شير ذيل بن عضد الدولة و استصحبه في جملته حيث قدم إلى بغداد و ملك الحضرة و لما توفي عضد الدولة ببغداد كان عمر الرضي أبي الحسن أربع عشرة سنة فكتب إلى أبيه و هو معتقل بالقلعة بشيراز
أبلغا عنى الحسين ألوكا أن ذا الطود بعد عهدك ساخاو الشهاب الذي اصطليت لظاه عكست ضوءه الخطوب فباخاو الفنيق الذي تذرع طول الأرض خوى به الردى و أناخاأن يرد مورد القذى و هو راض فبما يكرع الزلال النقاخاو العقاب الشغواء أهبطها النيق و قد أرعت النجوم صماخاأعجلتها المنون عنا و لكن خلفت في ديارنا أفراخاو على ذاك فالزمان بهم عاد غلاما من بعد ما كان شاخصا(2/25)
و أم الرضي أبي الحسن فاطمة بنت الحسين بن أحمد بن الحسن الناصر الأصم صاحب الديلم و هو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب ع شيخ الطالبيين و عالمهم و زاهدهم و أديبهم و شاعرهم شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 33ملك بلاد الديلم و الجبل ولقب بالناصر للحق جرت له حروب عظيمة مع السامانية و توفي بطبرستان سنة أربع و ثلاثمائة و سنه تسع و سبعون سنة و انتصب في منصبه الحسن بن القاسم بن الحسين الحسني و يلقب بالداعي إلى الحق. و هي أم أخيه أبي القاسم علي المرتضى أيضا. و حفظ الرضي رحمه الله القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدة يسيرة و عرف من الفقه و الفرائض طرفا قويا و كان رحمه الله عالما أديبا و شاعرا مفلقا فصيح النظم ضخم الألفاظ قادرا على القريض متصرفا في فنونه إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب و إن أراد الفخامة و جزالة الألفاظ في المدح و غيره أتى بما لا يشق فيه غباره و إن قصد في المراثي جاء سابقا و الشعراء منقطع أنفاسها على أثره و كان مع هذا مترسلا ذا كتابة قوية و كان عفيفا شريف النفس عالي الهمة ملتزما بالدين و قوانينه و لم يقبل من أحد صلة و لا جائزة حتى أنه رد صلاة أبيه و ناهيك بذلك شرف نفس و شدة ظلف فأما بنو بويه فإنهم اجتهدوا على قبوله صلاتهم فلم يقبل. و كان يرضى بالإكرام و صيانة الجانب و إعزاز الأتباع و الأصحاب و كان الطائع أكثر ميلا إليه من القادر و كان هو أشد حبا و أكثر ولاء للطائع منه للقادر و هو القائل للقادر في قصيدته التي مدحه بها منها شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 3عطفا أمير المؤمنين فإننا في دوحة العلياء لا نتفرق ما بيننا يوم الفخار تفاوت أبدا كلانا في المعالي معرق إلا الخلافة شرفتك فإنني أنا عاطل منها و أنت مطوفيقال إن القادر قال له على رغم أنف الشريف. و ذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ في وفاة الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري(2/26)