نَازِلَةٍ إِنْ نَزَلَتْ بِهِ وَ لِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يُوَرِّثُهُ غَيْرَهُ وَ مِنْهَا أَلَا لَا يَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ الْقَرَابَةِ يَرَى بِهَا الْخَصَاصَةَ أَنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لَا يَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَ لَا يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ وَ مَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ وَ تُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ وَ مَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ الْمَوَدَّةَ
قال الرضي رحمه الله أقول الغفيرة هاهنا الزيادة و الكثرة من قولهم للجمع الكثير الجم الغفير و الجماء الغفير و يروى عفوة من أهل أو مال و العفوة الخيار من الشي ء يقال أكلت عفوة الطعام أي خياره. و ما أحسن المعنى الذي أراده ع بقوله و من يقبض يده عن عشيرته... إى تمام الكلام فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة فإذا احتاج إلى نصرتهم و اضطر إلى مرافدتهم قعدوا عن نصره و تثاقلوا عن صوته فمنع ترافد الأيدي الكثيرة و تناهض الأقدام الجمة(2/262)
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 314الفالج الظافر الفائز فلج يفلج بالضم و في المثل من يأت الحكم وحده يفلج و الياسر الذي يلعب بالقداح و اليسر مثله و الجمع أيسار و في الكلام تقديم و تأخير تقديره كالياسر الفالج أي كاللاعب بالقداح المحظوظ منها و هو من باب تقديم الة على الموصوف كقوله تعالى وَ غَرابِيبُ سُودٌ و حسن ذلك هاهنا أن اللفظتين صفتان و إن كانت إحداهما مرتبة على الأخرى. و قوله ليست بتعذير أي ليست بذات تعذير أي تقصير فحذف المضاف كقوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ أي ذي النار. و قوله هم أعظم الناس حيطة كبيعة أي رعاية و كلاءة و يروى حيطة كغيبة و هي مصدر حاط أي تحننا و تعطفا. و الخصاصة الفقر يقول القضاء و القدر ينزلان من السماء إلى الأرض كقطر المطر أي مبثوث في جميع أقطار الأرض إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان في المال و العمر و الجاه و الولد و غير ذلك فإذا رأى أحدكم لأخيه زيادة في رزق أو عمر أو ولد و غير ذلك فلا يكونن ذلك له فتنة تفضي به إلى الحسد فإن الإنسان المسلم إذا كان غير مواقع لدناءة و قبيح يستحيي من ذكره بين الناس و يخشع إذا قرع به و يغرى لئام الناس بهتك ستره به كاللاعب بالقداح المحظوظ منها ينتظر أول فوزة و غلبة من قداحه تجلب له نفعا و تدفع عنه ضرا كذلك من وصفنا حاله يصبر و ينتظر إحدى الحسنيين إما أن يدعوه الله فيقبضه إليه و يستأثر به فالذي عند الله خير له و إما أن ينسأ في أجله فيرزقه الله أهلا و مالا فيصبح و قد اجتمع له ذلك مع حسبه و دينه و مروءته المحفوظة عليه. ثم قال المال و البنون حرث الدنيا و هو من قوله سبحانه الْمالُ وَ الْبَنُونَ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 315زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا و من قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُردُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ(2/263)
نَصِيبٍ. قال و قد يجمعهما الله لأقوام فإنه تعالى قد يرزق الرجل الصالح مالا و بنين فتجمع له الدنيا و الآخرة. ثم قال فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه و ذلك لأنه تعالى قال فَاتَّقُونِ و قال فَارْهَبُونِ و قال فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ و غير ذلك من آيات التحذير. ثم قال و لتكن التقوى منكم أقصى نهايات جهدكم لا ذات تقصيركم فإن العمل القاصر قاصر الثواب قاصر المنزلة
فصل في ذم الحاسد و الحسد
و اعلم أن مصدر هذا الكلام النهي عن الحسد و هو من أقبح الأخلاق المذمومة
و روى ابن مسعود عن النبي ص ألا لا تعادوا نعم الله قيل يا رسول الله و من الذي يعادي نعم الله قال الذين يحسدون الناس
و كان ابن عمر يقول تعوذوا بالله من قدر وافق إرادة حسود. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 316قيل لأرسطو ما بال الحسود أشد غما من المكروب قال لأنه يأخذ نصيبه من غموم الدنيا و يضاف إلى ذلك غمه بسرور الناس. و قال رسول الله ص استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود
و قال منصور الفقيه
منافسة الفتى فيما يزول على نقصان همته دليل و مختار القليل أقل منه و كل فوائد الدنيا قليل و من الكلام المروي عن أمير المؤمنين ع لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله
و من كلام عثمان بن عفان يكفيك من انتقامك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك. و قال مالك بن دينار شهادة القراء مقبولة في كل شي ء إلا شهادة بعضهم على بعض فإنهم أشد تحاسدا من السوس في الوبر. و قال أبو تمام و إذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسودلو لا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العودلو لا محاذرة العواقب لم تزل للحاسد النعمى على المحسود(2/264)
و تذاكر قوم من ظرفاء البصرة الحسد فقال رجل منهم إن الناس ربما حسدوا على الصلب فأنكروا ذلك ثم جاءهم بعد ذلك بأيام فقال إن الخليفة قد أمر بصلب شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 317الأحنف بن قيس و مالك بن مسمع و حمدان الحجام فقالوا هذا الخبيث يصلب مع هذين الرئيسين ال أ لم أقل لكم إن الناس يحسدون على الصلب.
و روى أنس بن مالك مرفوعا أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب
و في الكتب القديمة يقول الله عز و جل الحاسد عدو نعمتي متسخط لفعلي غير راض بقسمتي
و قال الأصمعي رأيت أعرابيا قد بلغ مائة و عشرين سنة فقلت له ما أطول عمرك فقال تركت الحسد فبقيت. و قال بعضهم ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد. قال الشاعر
تراه كأن الله يجدع أنفه و أذنيه إن مولاه ثاب إلى وفر
و قال آخر
قل للحسود إذا تنفس ضغنه يا ظالما و كأنه مظلوم
و من كلام الحكماء إياك و الحسد فإنه يبين فيك و لا يبين في المحسود. و من كلامهم من دناءة الحاسد أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب. و قيل لبعضهم لزمت البادية و تركت قومك و بلدك قال و هل بقي إلا حاسد نعمة أو شامت بمصيبة. بينا عبد الملك بن صالح يسير مع الرشيد في موكبه إذ هتف هاتف يا أمير المؤمنين طأطئ من إشرافه و قصر من عنانه و اشدد من شكاله و كان عبد الملك متهما شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 318عند الرشيد بالطمع في الخلافة فقال الرشيد ما يقول هذا فقال عبد الملك مقال حاسد و دسيس حاقد يا أمير المؤمنين قال قد صدقت نقص القوم فضلتهم و تخلفوا و سبقتهم حتى برز شأوك و قصر عنك غيرك ففي صدورهم جمرات التخلف و حزازات التبلد قال عبد الملك فأضرمها يا أمير المؤمنين عليهم بالمزيد. و قال شاعر(2/265)
يا طالب العيش في أمن و في دعة محضا بلا كدر صفوا بلا رنق خلص فؤادك من غل و من حسد فالغل في القلب مثل الغل في العنقو من كلام عبد الله بن المعتز إذا زال المحسود عليه علمت أن الحاسد كان يحسد على غير شي ء. و من كلامه الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له بخيل بما لا يملكه. و من كلامه لا راحة لحاسد و لا حياة لحريص. و من كلامه الميت يقل الحسد له و يكثر الكذب عليه و من كلامه ما ذل وم حتى ضعفوا و ما ضعفوا حتى تفرقوا و ما تفرقوا حتى اختلفوا و ما اختلفوا حتى تباغضوا و ما تباغضوا حتى تحاسدوا و ما تحاسدوا حتى استأثر بعضهم على بعض. و قال الشاعر
إن يحسدوني فإني غير لائمهم قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوافدام لي و لهم ما بي و ما بهم و مات أكثرنا غيظا بما يجد
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 319و من كلامهم ما خلا جسد عن حسد. و حد الحسد هو أن تغتاظ مما رزقه غيرك و تود أنه زال عنه و صار إليك و الغبطة ألا تغتاظ و لا تود زواله عنه و إنما تود أن ترزق مثله و ليست الغبطة بمذمومة. و قال الشاعرحسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالكل أعداء له و خصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسدا و بغيا إنه لدميمفصل في مدح الصبر و انتظار الفرج
و اعلم أنه ع بعد أن نهى عن الحسد أمر بالصبر و انتظار الفرج من الله إما بموت مريح أو بظفر بالمطلوب. و الصبر من المقامات الشريفة و قد وردت فيه آثار كثيرة
روى عبد الله بن مسعود عن النبي ص أن الصبر نصف الإيمان و اليقين الإيمان كله
و قالت عائشة لو كان الصبر رجلا لكان كريما.
و قال علي ع الصبر إما صبر على المصيبة أو على الطاعة أو عن المعصية و هذا القسم الثالث أعلى درجة من القسمين الأولين
و عنه ع الحياء زينة و التقوى كرم و خير المراكب مركب الصبر
و عنه ع القناعة سيف لا ينبو و الصبر مطية لا تكبو و أفضل العدة الصبر على الشدة(2/266)