غاية المكلفين هي الثواب أو العقاب فيحتمل أن يكون أراد ذلك و يحتمل أن يكون أراد بالغاية الموت و إنما جعل ذلك أمامنا لأن الإنسان كالسائر إلى الموت أو كالسائر إلى الجزاء فهما أمامه أي بين يديه. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 302ثم قال و إن وراءكم الساعة تحدوكم أتسوقكم و إنما جعلها وراءنا لأنها إذا وجدت ساقت الناس إلى موقف الجزاء كما يسوق الراعي الإبل فلما كانت سائقة لنا كانت كالشي ء يحفز الإنسان من خلفه و يحركه من ورائه إلى جهة ما بين يديه. و لا يجوز أن يقال إنما سماها وراءنا لأنها تكون بعد موتنا و خروجنا من الديا و ذلك أن الثواب و العقاب هذا شأنهما و قد جعلهما أمامنا. و أما القطب الراوندي فإنه قال معنى قوله فإن الغاية أمامكم يعني أن الجنة و النار خلفكم و معنى قوله وراءكم الساعة أي قدامكم. و لقائل أن يقول أما الوراء بمعنى القدام فقد ورد و لكن ما ورد أمام بمعنى خلف و لا سمعنا ذلك. و أما قوله تخففوا تلحقوا فأصله الرجل يسعى و هو غير مثقل بما يحمله يكون أجدر أن يلحق الذين سبقوه و مثله قوله نجا المخففون. و قوله ع فإنما ينتظر بأولكم آخركم يريد إنما ينتظر ببعث الذين ماتوا في أول الدهر مجي ء من يخلقون و يموتون في آخره كأير يريد إعطاء جنده إذا تكامل عرضهم إنما يعطي الأول منهم إذا انتهى عرض الأخير. و هذا كلام فصيح جدا. و الغور العمق و النطفة ما صفا من الماء و ما أنقع هذا الماء أي ما أرواه للعطش(2/252)
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 22303- و من خطبة له عأَلَا وَ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَرَ حِزْبَهُ وَ اسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ لِيَعُودَ الْجَوْرُ إِلَى أَوْطَانِهِ وَ يَرْجِعَ الْبَاطِلُ إِلَى نِصَابِهِ وَ اللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً وَ لَا جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نَصَفاً وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ لَنَصِيبَهُمْ مِنْهُ وَ إِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا التَّبِعَةُ إِلَّا عِنْدَهُمْ وَ إِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ يَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ وَ يُحْيُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ يَا خَيْبَةَ الدَّاعِي مَنْ دَعَا وَ إِلَامَ أُجِيبَ وَ إِنِّي لَرَاضٍ بِحُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَ عِلْمِهِ فِيهِمْ فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ السَّيْفِ وَ كَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ الْبَاطِلِ وَ نَاصِراً لِلْحَقِّ وَ مِنَ الْعَجَبِ بَعْثَتُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ وَ أَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلَادِ هَبِلَتْهُمُ الْهَبُولُ لَقَدْ كُنْتُ وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ وَ لَا أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ وَ إِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّي وَ غَيْرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِينِي(2/253)
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 304يروى ذمر بالتخفيف و ذمر بالتشديد و أصله الحض و الحث و التشديد دليل على التكثير. و استجلب جلبه الجلب بفتح اللام ما يجلب كما يقال جمع جمعه و يروى جلبه و جلبه و هما بمعنى و هو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه أي جمع قوما كالجهام اي لا نفع فيه و روي ليعود الجور إلى قطابه و القطاب مزاج الخمر بالماء أي ليعود الجور ممتزجا بالعدل كما كان و يجوز أن يعني بالقطاب قطاب الجيب و هو مدخل الرأس فيه أي ليعود الجور إلى لباسه و ثوبه. و قال الراوندي قطابه أصله و ليس ذلك بمعروف في اللغة. و روي الباطل بالنصب على أن يكون يرجع متعديا تقول رجعت زيدا إلى كذا و المعنى و يرد الجور الباطل إلى أوطانه. و قال الراوندي يعود أيضا مثل يرجع يكون لازما و متعديا و أجاز نصب الجور به و هذا غير صحيح لأن عاد لم يأت متعديا و إنما يعدى بالهمزة. و النصف الذي ينصف. و قال الراوندي النصف النصفة و المعنى لا يحتمله لأنه لا معنى لقوله و لا جعلوا بيني و بينهم إنصافا بل المعنى لم يجعلوا ذا انصاف بيني و بينهم. يرتضعون أما قد فطمت يقول يطلبون الشي ء بعد فواته لأن الأم إذا فطمت ولدها فقد انقضى إرضاعها. و قوله يا خيبة الداعي هاهنا كالناء في قوله تعالى يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ و قوله يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها أي يا خيبة احضري فهذا أوانك. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 305و كلامه في هذه الخطبة مع أصحاب الجمل و الداعي هو أحد الثلاثة الرجلان و المرأة. ثم قال على سبيل الاستصغار ل و الاستحقار من دعا و إلى ما ذا أجيب أي أحقر بقوم دعاهم هذا الداعي و أقبح بالأمر الذي أجابوه إليه فما أفحشه و أرذله. و قال الراوندي يا خيبة الداعي تقديره يا هؤلاء فحذف المنادى ثم قال خيبة الداعي أي خاب الداعي خيبة و هذا ارتكاب ضرورة لا حاجة إليها و إنما يحذف المنادى في المواضع التي دل الدليل فيها على الحذف كقوله(2/254)
يا فانظر أيمن الوادي على إضم
و أيضا فإن المصدر الذي لا عامل فيه غير جائز حذف عامله و تقدير حذفه تقدير ما لا دليل عليه. و هبلته أمه بكسر الباء ثكلته. و قوله لقد كنت و ما أهدد بالحرب معناه ما زلت لا أهدد بالحرب و الواو زائدة و هذه كلمة فصيحة كثيرا ما تستعملها العرب و قد ورد في القرآن العزيز كان بمعنى ما زال في قوله وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً و نحو ذلك من الآي معنى ذلك لم يزل الله عليما حكيما و الذي تأوله المرتضى رحمه الله تعالى في تكملة الغرر و الدرر كلام متكلف و الوجه الصحيح ما ذكرناه. و هذه الخطبة ليست من خطب صفين كما ذكره الراوندي بل من خطب الجمل و قد ذكر كثيرا منها أبو مخنف رحمه الله تعالى(2/255)
قال حدثنا مسافر بن عفيف بن أبي الأخنس. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 306قال لما رجعت رسل علي ع من عند طلحة و الزبير و عائشة يؤذنونه بالحرب قام فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ص ثم قال أيها الناس إني قد راقبت هؤلاء القوم كي يرعووا أو يرجعوا و وبختهم بنهم و عرفتهم بغيهم فلم يستحيوا و قد بعثوا إلي أن أبرز للطعان و أصبر للجلاد و إنما تمنيك نفسك أماني الباطل و تعدك الغرور ألا هبلتهم الهبول لقد كنت و ما أهدد بالحرب و لا أرهب بالضرب و لقد أنصف القارة من راماها فليرعدوا و ليبرقوا فقد رأوني قديما و عرفوا نكايتي فكيف رأوني أنا أبو الحسن الذي فللت حد المشركين و فرقت جماعتهم و بذلك القلب ألقى عدوي اليوم و إني لعلى ما وعدني ربي من النصر و التأييد و على يقين من أمري و في غير شبهة من ديني أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم و لا يعجزه الهارب ليس عن الموت محيد و لا محيص من لم يقتل مات إن أفضل الموت القتل و الذي نفس علي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موتة واحدة على الفراش اللهم إن طلحة نكث بيعتي و ألب على عثمان حتى قتله ثم عضهني به و رماني اللهم فلا تمهله اللهم إن الزبير قطع رحمي و نكث بيعتي و ظاهر على عدوي فاكفنيه اليوم بما شئت ثم نزل
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 307خطبة علي بالمدينة في أول إمارتهو اعلم أن كلام أمير المؤمنين ع و كلام أصحابه و عماله في واقعة الجمل كله يدور على هذه المعاني التي اشتملت عليها ألفاظ هذا الفصل(2/256)