شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 23رجلا منا أهل البيت حتى شب عبد الله فظفر به يوم الجمل فأخذه أسيرا فصفح عنه و قال اذهب فلا أرينك لم يزده على ذلك. و ظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة و كان له عدوا فأعرض عنه و لم يقل له شيئا. و قد علمتم ما كان من عائشة في ره فلما ظفر بها أكرمها و بعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم و قلدهن بالسيوف فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به و تأففت و قالت هتك ستري برجاله و جنده الذين وكلهم بي فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن و قلن لها إنما نحن نسوة. و حاربه أهل البصرة و ضربوا وجهه و وجوه أولاده بالسيوف و شتموه و لعنوه فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم و نادى مناديه في أقطار العسكر ألا لا يتبع مول و لا يجهز على جريح و لا يقتل مستأسر و من ألقى سلاحه فهو آمن و من تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن و لم يأخذ أثقالهم و لا سبى ذراريهم و لا غنم شيئا من أموالهم و لو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل و لكنه أبى إلا الصفح و العفو و تقيل سنة رسول الله ص يوم فتح مكة فإنه عفا و الأحقاد لم تبرد و الإساءة لم تنس. و لما ملك عسكر معاوية عليه الماء و أحاطوا بشريعة الفرات و قالت رؤساء الشام له اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا سألهم علي ع و أصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء فقالوا لا و الله و لا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان فلما رأى ع أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه و حمل على عساكر معاوية حملات كثيفة حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع سقطت منه الرءوس و الأيدي و ملكوا عليهم شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 24الماء و صار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم فقال له أصحابه و شيعته امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك و لا تسقهم منه قطرة و اقتلهم بسيوف العطش و خذهم قبضا بالأيدي فلااجة لك إلى الحرب فقال لا و الله لا أكافئهم بمثل فعلهم افسحوا لهم عن(2/17)


بعض الشريعة ففي حد السيف ما يغني عن ذلك فهذه إن نسبتها إلى الحلم و الصفح فناهيك بها جمالا و حسنا و إن نسبتها إلى الدين و الورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله ع. و أما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه و عدوه أنه سيد المجاهدين و هل الجهاد لأحد من الناس إلا له و قد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله ص و أشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى قتل فيها سبعون من المشركين قتل علي نصفهم و قتل المسلمون و الملائكة النصف الآخر و إذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي و تاريخ الأشراف لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري و غيرهما علمت صحة ذلك دع من قتله في غيرها كأحد و الخندق و غيرهما و هذا الفصل لا معنى للإطناب فيه لأنه من المعلومات الضرورية كالعلم بوجود مكة و مصر و نحوهما. و أما الفصاحة فهو ع إمام الفصحاء و سيد البلغاء و في كلامه قيل دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوقين و منه تعلم الناس الخطابة و الكتابة قال عبد الحميد بن يحيى حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت و قال ابن نباتة حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الإنفاق إلا سعة و كثرة حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب. و لما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية جئتك من عند أعيا الناس قال له ويحك شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 25كيف يكون أعيا الناس فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره و يكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة و لا يبارى في البلا و حسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العشر و لا نصف العشر مما دون له و كفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب البيان و التبيين و في غيره من كتبه. و أما سجاحة الأخلاق و بشر الوجه و طلاقة المحيا و التبسم فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه(2/18)


قال عمرو بن العاص لأهل الشام إنه ذو دعابة شديدة و قال علي ع في ذاك عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن في دعابة و أني امرؤ تلعابة أعافس و أمارس
و عمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه لله أبوك لو لا دعابة فيك إلا أن عمر اقتصر عليها و عمرو زاد فيها و سمجها. قال صعصعة بن صوحان و غيره من شيعته و أصحابه كان فينا كأحدنا لين جانب و شدة تواضع و سهولة قياد و كنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه. و قال معاوية لقيس بن سعد رحم الله أبا حسن فلقد كان هشا بشا ذا فكاهة قال قيس نعم كان رسول الله ص يمزح و يبتسم إلى أصحابه و أراك تسر حسوا في ارتغاء و تعيبه بذلك أما و الله لقد كان مع تلك الفكاهة و الطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى تلك هيبة التقوى و ليس كما يهابك طغام أهل الشام. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 26و قد بقي هذا الخلق متوارثا متنافلا في محبيه و أوليائه إلى الآن كما بقي الجفاء و الخشونة و الوعورة في الجانب الآخر و من له أدنى معرفة بأخلاق الناس و عوائدهم يع ذلك. و أما الزهد في الدنيا فهو سيد الزهاد و بدل الأبدال و إليه تشد الرحال و عنده تنفض الأحلاس ما شبع من طعام قط و كان أخشن الناس مأكلا و ملبسا قال عبد الله بن أبي رافع دخلت إليه يوم عيد فقدم جرابا مختوما فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا فقدم فأكل فقلت يا أمير المؤمنين فكيف تختمه قال خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت. و كان ثوبه مرقوعا بجلد تارة و ليف أخرى و نعلاه من ليف و كان يلبس الكرباس الغليظ فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة و لم يخطه فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له و كان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل و لا يأكل اللحم إلا قليلا و يقول لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان و كان مع ذلك أشد(2/19)


الناس قوة و أعظمهم أيدا لا ينقض الجوع قوته و لا يخون الإقلال منته و هو الذي طلق الدنيا و كانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلا من الشام فكان يفرقها و يمزقها ثم يقول
هذا جناي و خياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 27و أما العبادة فكان أعبد الناس و أكثرهم صلاة و صوما و منه تعلم الناس صلاة الليل و ملازمة الأوراد و قيام النافلة و ما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده و السهام تقع بين يديه تمر على صماخيه يمينا و شمالا فلا يرتاع لذلك و لا يقوم حتى يفرغ من وظيفته و ما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده. و أنت إذا تأملت دعواته و مناجاته و وقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه و إجلاله و ما يتضمنه من الخضوع لهيبته و الخشوع لعزته و الاستخذاء له عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص و فهمت من أي قلب خرجت و على أي لسان جرت. و
قيل لعلي بن الحسين ع و كان الغاية في العبادة أين عبادتك من عبادة جدك قال عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله ص(2/20)


و أما قراءته القرآن و اشتغاله به فهو المنظور إليه في هذا الباب اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله ص و لم يكن غيره يحفظه ثم هو أول من جمعه نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبي بكر فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة بل يقولون تشاغل بجمع القرآن فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن لأنه لو كان مجموعا في حياة رسول الله ص لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاته ص و إذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه كأبي عمرو بن العلاء و عاصم بن أبي النجود و غيرهما لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القارئ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 28و أبو عبد الرحمن كان تلميذه و عنه أخذ القرآن فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا مثل كثير مما سبق. و أما الرأي و التدبير فكان من أسد الناس رأيا و أصحهم تدبيرا و هو الذي ار على عمر بن الخطاب لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم و الفرس بما أشار و هو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها و لو قبلها لم يحدث عليه ما حدث و إنما قال أعداؤه لا رأي له لأنه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها و لا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه
و قد قال ع لو لا الدين و التقى لكنت أدهى العرب(2/21)

5 / 150
ع
En
A+
A-