شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 274الذمة العقد و العهد يقول هذا الدين في ذمتي كقولك في عنقي و هما كناية عن الالتزام و الضمان و التقلد و الزعيم الكفيل و مخرج الكلام لهم مخرج الترغيب في سماع ما يقوله كما يقول المهتم بإيضاح أمر لقوم لهم أنا المدرك المتقلد بصدق مأقوله لكم و صرحت كشفت و العبر جمع عبرة و هي الموعظة و المثلات العقوبات و حجزه منعه. و قوله لتبلبلن أي لتخلطن تبلبلت الألسن أي اختلطت و لتغربلن يجوز أن يكون من الغربال الذي يغربل به الدقيق و يجوز أن يكون من غربلت اللحم أي قطعته فإن كان الأول كان له معنيان أحدهما الاختلاط كالتبلبل لأن غربلة الدقيق تخلط بعضه ببعض و الثاني أن يريد بذلك أنه يستخلص الصالح منكم من الفاسد و يتميز كما يتميز الدقيق عند الغربلة من نخالته. و تقول ما عصيت فلانا وشمة أي كلمة و حصان شموس يمنع ظهره شمس الفرس بالفتح و به شماس و أمر الباطل كثر. و قوله لقديما فعل أي لقديما فعل الباطل ذلك و نسب الفعل إلى الباطل مجازا و يجوز أن يكون فعل بمعنى انفعل كقوله
قد جبر الدين الإله فجبر
أي فانجبر و السنخ الأصل و قوله سنخ أصل كقوله
إذا حاص عينيه كرى النوم
و في بعض الروايات من أبدى صفحته للحق هلك عند جهلة الناس
و التأويل مختلف فمراده على الرواية الأولى و هي الصحيحة من كاشف الحق مخاصما له هلك شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 275و هي كلمة جارية مجرى المثل و مراده على الرواية الثانية من أبدى صفحته لنصرة الحق غلبه أهل الجهل لأنهم العامة و فيهم الكثرة فهلك. و هذه الخطبة منلائل خطبه ع و من مشهوراتها قد رواها الناس كلهم و فيها زيادات حذفها الرضي إما اختصارا أو خوفا من إيحاش السامعين و قد ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان و التبيين على وجهها و رواها عن أبي عبيدة معمر بن المثنى.(2/232)


قال أول خطبة خطبها أمير المؤمنين علي ع بالمدينة في خلافته حمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي ص ثم قال ألا لا يرعين مرع إلا على نفسه شغل من الجنة و النار أمامه ساع مجتهد ينجو و طالب يرجو و مقصر في النار ثلاثة و اثنان ملك طار بجناحيه و نبي أخذ الله بيده لا سادس هلك من ادعى و ردي من اقتحم اليمين و الشمال مضلة و الوسطى الجادة منهج عليه باقي الكتاب و السنة و آثار النبوة إن الله داوى هذه الأمة بدواءين السوط و السيف لا هوادة عند الإمام فيهما استتروا في بيوتكم و أصلحوا ذات بينكم و التوبة من ورائكم من أبدى صفحته شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 276للحق هلك قد كانت لكم أمور ملتم فيها على ميلة لم تكونوا عندي فيها محمودين و لا مصيبين أما إني لو أشاء لقلت عفا الله عما سلف سبق الرجلان و قام الثالث كالغراب همته بطنه ويحه لو قص جناحاه و قطع رأسه لكان خيرا له انظروا فإن أنكرتمأنكروا و إن عرفتم فآزروا حق و باطل و لكل أهل و لئن أمر الباطل لقديما فعل و لئن قل الحق لربما و لعل و قلما أدبر شي ء فأقبل و لئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء و إني لأخشى أن تكونوا في فترة و ما علينا إلا الاجتهاد قال شيخنا أبو عثمان رحمه الله تعالى و قال أبو عبيدة و زاد فيها في رواية جعفر بن محمد ع عن آبائه ع ألا إن أبرار عترتي و أطايب أرومتي أحلم الناس صغارا و أعلم الناس كبارا ألا و إنا أهل بيت من علم الله علمنا و بحكم الله حكمنا و من قول صادق سمعنا فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا و إن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا و معنا راية الحق من تبعها لحق و من تأخر عنها غرق ألا و بنا يدرك ترة كل مؤمن و بنا تخلع ربقة الذل عن أعناقكم و بنا فتح لا بكم و منا يختم لا بكم(2/233)


قوله لا يرعين أي لا يبقين أرعيت عليه أي أبقيت يقول من أبقى على الناس فإنما أبقى على نفسه و الهوادة الرفق و الصلح و أصله اللين و التهويد المشي شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 277رويدا و في الحديث أسرعوا المشي في الجنازة و لا تهودوا كما تهود أهل الكتاب
و آزرت زيدا أعنته الترة و الوتر و الربقة الحبل يجعل في عنق الشاة و ردي هلك من الردى كقولك عمي من العمى و شجي من الشجا. و قوله شغل من الجنة و النار أمامه يريد به أن من كانت هاتان الداران أمامه لفي شغل عن أمور الدنيا إن كان رشيدا. و قوله ساع مجتهد إلى قوله لا سادس كلام تقديره المكلفون على خمسة أقسام ساع مجتهد و طالب راج و مقصر هالك ثم قال ثلاثة أي فهؤلاء ثلاثة أقسام و هذا ينظر إلى قوله سبحانه ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ثم ذكر القسمين الرابع و الخامس فقال هما ملك طار بجناحيه و نبي أخذ الله بيده يريد عصمة هذين النوعين من القبيح ثم قال لا سادس أي لم يبق في المكلفين قسم سادس و هذا يقتضي أن العصمة ليست إلا للأنبياء و الملائكة و لو كان الإمام يجب أن يكون معصوما لكان قسما سادسا فإذن قد شهد هذا الكلام بصحة ما تقوله المعتزلة في نفي اشتراط العصمة في الإمامة اللهم إلا أن يجعل الإمام المعصوم داخلا في القسم الأول و هو الساعي المجتهد و فيه بعد و ضعف. و قوله هلك من ادعى و ردي من اقتحم يريد هلك من ادعى و كذب لا بد من تقدير ذلك لأن الدعوى تعم الصدق و الكذب و كأنه يقول هلك من ادعى الإمامة و ردي من اقتحمها و ولجها عن غير استحقاق لأن كلامه ع في هذه الخطبة كله كنايات عن الإمامة لا عن غيرها. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 278و قوله اليمين و الشمال مث لأن السالك الطريق المنهج اللاحب ناج و العادل عنها يمينا و شمالا معرض(2/234)


للخطر. و نحو هذا الكلام ما روي عن عمر أنه لما صدر عن منى في السنة التي قتل فيها كوم كومة من البطحاء فقام عليها فخطب الناس فقال أيها الناس قد سنت لكم السنن و فرضت لكم الفرائض و تركتم على الواضحة إلا أن تميلوا بالناس يمينا و شمالا ثم قرأ أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ثم قال إلا إنهما نجدا الخير و الشر فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير
من كلام للحجاج و زياد نسجا فيه على منوال كلام علي
و قوله إن الله داوى هذه الأمة بدواءين كلام شريف و على منواله نسج الحجاج و زياد كلامهما المذكور فيه السوط و السيف فمن ذلك قول الحجاج من أعياه داؤه فعلي دواؤه و من استبطأ أجله فعلي أن أعجله و من استثقل رأسه وضعت عنه ثقله و من استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه إن للشيطان طيفا و إن للسلطان سيفا فمن سقمت سريرته صحت عقوبته و من وضعه ذنبه رفعه صلبه و من لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة و من سبقته بادرة فمه سبق بدنه سفك دمه إني لأنذر ثم لا أنظر و أحذر ثم لا أعذر و أتوعد ثم لا أغفر إنما أفسدكم ترقيق ولاتكم و من استرخى لببه ساء أدبه إن الحزم و العزم سلباني شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 279سوطي و جعلا سوطي سيفي فقائمه في يدي و نجاده في عنقي و ذبابه قلادة لمن عصاني و الله لا آمر أحدا أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه. و من ذلك قول زياد ما هو زجر بالقول ثم ضرب بالسوط ثم الثالثة التي لا شوى لها فلا يكونن لسان أحدكم شفرة تجري على أوداجه و ليعلم إذا خلا بنفسه أني قد حملت سيفي بيده فإن شهره لم أغمده و إن أغمده لم أشهره(2/235)


و قوله ع كالغراب يعني الحرص و الجشع و الغراب يقع على الجيفة و يقع على التمرة و يقع على الحبة و في الأمثال أجشع من غراب و أحرص من غراب. و قوله ويحه لو قص يريد لو كان قتل أو مات قبل أن يتلبس بالخلافة لكان خيرا له من أن يعيش و يدخل فيها ثم قال لهم أفكروا فيما قد قلت فإن كان منكرا فأنكروه و إن كان حقا فأعينوا عليه. و قوله استتروا في بيوتكم نهي لهم عن العصبية و الاجتماع و التحزب فقد كان قوم بعد قتل عثمان تكلموا في قتله من شيعة بني أمية بالمدينة. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 280و أما قوله قد كانت أمور لم تكونوا عن فيها محمودين فمراده أمر عثمان و تقديمه في الخلافة عليه و من الناس من يحمل ذلك على خلافة الشيخين أيضا و يبعد عندي أن يكون أراده لأن المدة قد كانت طالت و لم يبق من يعاتبه ليقول قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها محمودين فإن هذا الكلام يشعر بمعاتبة قوم على أمر كان أنكره منهم و أما بيعة عثمان ثم ما جرى بينه و بين عثمان من منازعات طويلة و غضب تارة و صلح أخرى و مراسلات خشنة و لطيفة و كون الناس بالمدينة كانوا حزبين و فئتين إحداهما معه ع و الأخرى مع عثمان فإن صرف الكلام إلى ما قلناه بهذا الاعتبار أليق. و لسنا نمنع من أن يكون في كلامه ع الكثير من التوجد و التألم لصرف الخلافة بعد وفاة الرسول ص عنه و إنما كلامنا الآن في هذه اللفظات التي في هذه الخطبة على أن قوله ع سبق الرجلان و الاقتصار على ذلك فيه كفاية في انحرافه عنهما. و أما قوله حق و باطل إلى آخر الفصل فمعناه كل أمر فهو إما حق و إما باطل و لكل واحد من هذين أهل و ما زال أهل الباطل أكثر من أهل الحق و لئن كان الحق قليلا لربما كثر و لعله ينتصر أهله. ثم قال على سبيل التضجر بنفسه و قلما أدبر شي ء فأقبل استبعد ع أن تعود دولة قوم بعد زوالها عنهم و إلى هذا المعنى ذهب الشاعر ي قوله(2/236)

48 / 150
ع
En
A+
A-