شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 18و من العلوم علم الفقه و هو ع أصله و أساسه و كل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه و مستفيد من فقهه أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف و محمد و غيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة و أما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفو أما أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة و أبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد ع و قرأ جعفر على أبيه ع و ينتهي الأمر إلى علي ع و أما مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي و قرأ ربيعة على عكرمة و قرأ عكرمة على عبد الله بن عباس و قرأ عبد الله بن عباس على علي بن أبي طالب. و إن شئت فرددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك فهؤلاء الفقهاء الأربعة. و أما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر و أيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب و عبد الله بن عباس و كلاهما أخذ عن علي ع أما ابن عباس فظاهر و أما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه و على غيره من الصحابة و قوله غير مرة لو لا علي لهلك عمر و قوله لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن و قوله لا يفتين أحد في المسجد و علي حاضر فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه.
و قد روت العامة و الخاصة قوله ص أقضاكم علي(2/12)
و القضاء هو الفقه فهو إذا أفقههم و روى الكل أيضا أنه ع قال له و قد بعثه إلى اليمن قاضيا اللهم اهد قلبه و ثبت لسانه قال فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 19و هو ع الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر و هو الذي أفتى في الحامل النية و هو الذي قال في المنبرية صار ثمنها تسعا و هذه المسألة لو فكر الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب فما ظنك بمن قاله بديهة و اقتضبه ارتجالا. و من العلوم علم تفسير القرآن و عنه أخذ و منه فرع و إذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك لأن أكثره عنه و عن عبد الله بن عباس و قد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له و انقطاعه إليه و أنه تلميذه و خريجه و قيل له أين علمك من علم ابن عمك فقال كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط. و من العلوم علم الطريقة و الحقيقة و أحوال التصوف و قد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون و عنده يقفون و قد صرح بذلك الشبلي و الجنيد و سري و أبو يزيد البسطامي و أبو محفوظ معروف الكرخي و غيرهم و يكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم و كونهم يسندونها بإسناد متصل إليه ع. شرح نهج البلاغة ج 1 ص : 20و من العلوم علم النحو و العربية و قد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه و أنشأه و أملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه و أصوله من جملتها الكلام كله ثلاثة أشياء اسم و فعل و حرف و من جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة و نكرة و تقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع و النصب و الجر و الجزم و هذا يكاد يلحق بالمعجزات لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر و لا تنهض بهذا الاستنباط. و إن رجعت إلى الخصائص الخلقية و الفضائل النفسانية و الدينية وجدته ابن جلاها و طلاع ثناياها. و أما الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله و محا اسم من يأتي بعده و مقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إلى(2/13)
يوم القيامة و هو الشجاع الذي ما فر قط و لا ارتاع من كتيبة و لا بارز أحدا إلا قتله و لا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية و في الحديث كانت ضرباته وترا و لما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما قال له عمرو لقد أنصفك فقال معاوية ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم أ تأمرني بمبارزة أبي الحسن و أنت تعلم أنه الشجاع المطرق أراك طمعت في إمارة الشام بعدي و كانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه ع قتلهم أظهر و أكثر قالت أخت عمرو بن عبد ود ترثيه
لو كان قاتل عمرو غير قاتله بكيته أبدا ما دمت في الأبد(2/14)
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 21لكن قاتله من لا نظير له و كان يدعى أبوه بيضة البلو انتبه يوما معاوية فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره فقعد فقال له عبد الله يداعبه يا أمير المؤمنين لو شئت أن أفتك بك لفعلت فقال لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر قال و ما الذي تنكره من شجاعتي و قد وقفت في الصف إزاء علي بن أبي طالب قال لا جرم أنه قتلك و أباك بيسرى يديه و بقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها. و جملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهى و باسمه ينادي في مشارق الأرض و مغاربها. و أما القوة و الأيد فبه يضرب المثل فيهما قال ابن قتيبة في المعارف ما صارع أحدا قط إلا صرعه و هو الذي قلع باب خيبر و اجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه و هو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة و كان عظيما جدا و ألقاه إلى الأرض و هو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته ع بيده بعد عجز الجيش كله عنها و أنبط الماء من تحتها. و أما السخاء و الجود فحاله فيه ظاهرة و كان يصوم و يطوي و يؤثر بزاده و فيه أنزل وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً و روى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا و بدرهم نهارا و بدرهم سرا و بدرهم علانية فأنزل فيه الَّذِينَ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 22يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً. و روى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى مجلت يده و يتصدق بالأجرة و يشد علىطنه حجرا. و قال الشعبي و قد ذكره ع كان أسخى الناس كان على الخلق الذي يحبه الله السخاء و الجود ما قال لا لسائل قط و قال عدوه و مبغضه الذي يجتهد في وصمه و عيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لما قال له جئتك من عند أبخل الناس فقال(2/15)
ويحك كيف تقول إنه أبخل الناس لو ملك بيتا من تبر و بيتا من تبن لأنفد تبره قبل تبنه. و هو الذي كان يكنس بيوت الأموال و يصلي فيها و هو الذي قال يا صفراء و يا بيضاء غري غيري و هو الذي لم يخلف ميراثا و كانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام. و أما الحلم و الصفح فكان أحلم الناس عن ذنب و أصفحهم عن مسي ء و قد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم و كان أعدى الناس له و أشدهم بغضا فصفح عنه. و كان عبد الله بن الزبير يشتمه على رءوس الأشهاد و خطب يوم البصرة فقال قد أتاكم الوغد اللئيم علي بن أبي طالب و كان علي ع يقول م زال الزبير(2/16)