و يقال إن مخلدا الموصلي بعث إليه بقارورة يسأله أن يبعث له فيها قليلا من ماء الملام فقال لصاحبه قل له يبعث إلي بريشة من جناح الذل لأستخرج بها من القارورة ما أبعثه إليه. و هذا ظلم من أبي تمام المخلد و ما الأمران سوء لأن الطائر إذا أعيا و تعب ذل و خفض جناحيه و كذلك الإنسان إذا استسلم ألقى بيديه ذلا و يده جناحه فذاك هو الذي حسن قوله تعالى وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ أ لا ترى أنه لو قال و اخفض لهما ساق الذل أو بطن الذل لم يكن مستحسنا. و من الاستعارة المستحسنة في الكلام المنثور ما اختاره قدامة بن جعفر في كتاب الخراج نحو قول أبي الحسين جعفر بن محمد بن ثوابة في جوابه لأبي الجيش خمارويه شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 217بن أحمد بن طولون عن المعتضد بالله لما كتب بإنفاذ ابنته قطر الندى التي تزوجها المعتضد و ذلك قول ابن ثوابة هذا و أما الوديعة فهي بمنزلة ما انتقل من الك إلى يمينك عناية بها و حياطة لها و رعاية لمودتك فيها. و قال ابن ثوابة لما كتب هذا الكتاب لأبي القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد و الله إن تسميتي إياها بالوديعة نصف البلاغة. و ذكر أحمد بن يوسف الكاتب رجلا خلا بالمأمون فقال ما زال يفتله في الذروة و الغارب حتى لفته عن رأيه. و قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي النبيذ قيد الحديث. و ذكر بعضهم رجلا فذمه فقال هو أملس ليس فيه مستقر لخير و لا شر. و رضي بعض الرؤساء عن رجل من موجدة ثم أقبل يوبخه عليها فقال إن رأيت ألا تخدش وجه رضاك بالتوبيخ فافعل. و قال بعض الأعراب خرجنا في ليلة حندس قد ألقت على الأرض أكارعها فمحت صورة الأبدان فما كنا نتعارف إلا بالآذان. و غزت حنيفة نميرا فأتبعتهم نمير فأتوا عليهم فقيل لرجل منهم كيف صنع قومك قال اتبعوهم و الله و قد أحقبوا كل جمالية خيفانة فما زالوا يخصفون آثار المطي بحوافر الخيل حتى لحقوهم فجعلوا المران أرشية الموت فاستقوا بها أرواحهم. و(2/187)
من كلام لعبد الله بن المعتز يصف القلم يخدم الإرادة و لا يمل الاستزادة شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 218و يسكت واقفا و ينطق سائرا على أرض بياضها مظلم و سوادها مضي فأما القطب الراوندي فقال قوله ع شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة معناه كونوا مع أهل البيت لأنهم سفن النجاة
لقوله ع مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق
و لقائل أن يقول لا شبهة أن أهل البيت سفن النجاة و لكنهم لم يرادوا هاهنا بهذه اللفظة لأنه لو كان ذلك هو المراد لكان قد أمر أبا سفيان و العباس بالكون مع أهل البيت و مراده الآن ينقض ذلك لأنه يأمر بالتقية و إظهار اتباع الذين عقد لهم الأمر و يرى أن الاستسلام هو المتعين فالذي ظنه الراوندي لا يحتمله الكلام و لا يناسبه. و قال أيضا التعريج على الشي ء الإقامة عليه يقال عرج فلان على المنزل إذا حبس نفسه عليه فالتقدير عرجوا على الاستقامة منصرفين عن المنافرة. و لقائل أن يقال التعريج يعدى تارة بعن و تارة بعلى فإذا عديته عن أردت التجنب و الرفض و إذا عديته بعلى أردت المقام و الوقوف و كلامه ع معدى بعن قال و عرجوا عن طريق المنافرة. و قال أيضا آنس بالموت أي أسر به و ليس بتفسير صحيح بل هو من الأنس ضد الوحشة
اختلاف الرأي في الخلافة بعد وفاة رسول الله(2/188)
لما قبض رسول الله ص و اشتغل علي ع بغسله و دفنه و بويع أبو بكر خلا الزبير و أبو سفيان و جماعة من المهاجرين بعباس و علي ع شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 219لإجالة الرأي و تكلموا بكلام يقتضي الاستنهاض و التهييج فقال العباس رضي الله عنه قد سمعنا قولكم فلا لقلة نسين بكم و لا لظنة نترك آراءكم فأمهلونا نراجع الفكر فإن يكن لنا من الإثم مخرج يصر بنا و بهم الحق صرير الجدجد و نبسط إلى المجد أكفا لا نقبضها أو نبلغ المدى و إن تكن الأخرى فلا لقلة في العدد و لا لوهن في الأيد و الله لو لا أن الإسلام قيد الفتك لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العلي. فحل علي ع حبوته و قال الصبر حلم و التقوى دين و الحجة محمد و الطريق الصراط أيها الناس شقوا أمواج الفتن... الخطبة ثم نهض فدخل إلى منزله و افترق القوم. و قال البراء بن عازب لم أزل لبني هاشم محبا فلما قبض رسول الله ص خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله ص فكنت أتردد إلى بني هاشم و هم عند النبي ص في الحجرة و أتفقد وجوه قريش فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر و عمر و إذا قائل يقول القوم في سقيفة بني ساعدة و إذا قائل آخر يقول قد بويع أبو بكر فلم ألبث و إذا أنا بأبي بكر قد أقبل و معه عمر و أبو عبيدة و جماعة من أصحاب السقيفة و هم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه و قدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى فأنكرت عقلي و خرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم و الباب مغلق فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا و قلت قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة فقال العباس تربت أيديكم إلى آخر الدهر أما إني قد أمرتكم فعصيتموني فمكثت أكابد ما في نفسي و رأيت شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 220في الليل المقداد و سلمان و ا ذر و عبادة بن الصامت و أبا الهيثم بن التيهان و حذيفة و عمارا و هم(2/189)
يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين. و بلغ ذلك أبا بكر و عمر فأرسلا إلى أبي عبيدة و إلى المغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي فقال المغيرة الرأي أن تلقوا العباس فتجعلوا له و لولده في هذه الإمرة نصيبا ليقطعوا بذلك ناحية علي بن أبي طالب. فانطلق أبو بكر و عمر و أبو عبيدة و المغيرة حتى دخلوا على العباس و ذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ص فحمد أبو بكر الله و أثنى عليه و قال إن الله ابتعث لكم محمدا ص نبيا و للمؤمنين وليا فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم حتى اختار له ما عنده فخلى على الناس أمورهم ليختاروا لأنفسهم متفقين غير مختلفين فاختاروني عليهم واليا و لأمورهم راعيا فتوليت ذلك و ما أخاف بعون الله و تسديده وهنا و لا حيرة و لا جبنا و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب و ما أنفك يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين يتخذكم لجأ فتكونون حصنه المنيع و خطبه البديع فإما دخلتم فيما دخل فيه الناس أو صرفتموهم عما مالوا إليه فقد جئناك و نحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا و لمن بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله ص و إن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله ص و مكان أهلك ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم و على رسلكم بني هاشم فإن رسول الله ص منا و منكم. فاعترض كلامه عمر و خرج إلى مذهبه في الخشونة و الوعيد و إتيان الأمر من أصعب جهاته فقال إي و الله و أخرى إنا لم نأتكم حاجة إليكم و لكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم فيتفاقم الخطب بكم و بهم فانظروا لأنفسكم و لعامتهم ثم سكت.(2/190)
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 221فتكلم العباس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال إن الله ابتعث محمدا نبيا كما وصفت و وليا للمؤمنين فمن الله به على أمته حتى اختار له ما عنده فخلى الناس على أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين للحق مائلين عن زيغ الهوى فإن كنت برسول الله طت فحقنا أخذت و إن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ما تقدمنا في أمركم فرطا و لا حللنا وسطا و لا نزحنا شحطا فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنا كارهين و ما أبعد قولك إنهم طعنوا من قولك إنهم مالوا إليك و أما ما بذلت لنا فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك و إن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه و إن يكن حقنا لم نرض لك ببعضه دون بعض و ما أقول هذا أروم صرفك عما دخلت فيه و لكن للحجة نصيبها من البيان و أما قولك إن رسول الله ص منا و منكم فإن رسول الله ص من شجرة نحن أغصانها و أنتم جيرانها و أما قولك يا عمر إنك تخاف الناس علينا فهذا الذي قدمتموه أول ذلك و بالله المستعان. لما اجتمع المهاجرون على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان و هو يقول أما و الله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم يا لعبد مناف فيم أبو بكر من أمركم أين المستضعفان أين الأذلان يعني عليا و العباس ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ثم قال لعلي ابسط يدك أبايعك فو الله إن شئت لأملأنها على أبي فصيل... خيلا و رجلا فامتنع عليه علي ع فلما يئس منه قام عنه و هو ينشد شعر المتلمس شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 22و لا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان عير الحي و الوتدهذا على الخسف مربوط برمته و ذا يشج فلا يرثي له أحد(2/191)