لا يساويه في فضل و لا يوازيه في جهاد و علم و لا يماثله في سؤدد و شرف ساغ إطلاق هذه الألفاظ و إن كان من وسم بالخلافة قبله عدلا تقيا و كانت بيعته بيعة صحيحة أ لا ترى أن البلد قد يكون فيه فقيهان أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة فيجعل السلطان الأنقص علما منهما قاضيا فيتوجد الأعلم و يتألم و ينفث أحيانا بالشكوى و لا يكون ذلك طعنا في القاضي و لا تفسيقا له و لا حكما منه بأنه غير صالح بل للعدول عن الأحق و الأولى و هذا أمر مركوز في طباع البشر و مجبول في أصل الغريزة و الفطرة فأصحابنا رحمهم الله لما أحسنوا الظن بالصحابة و حملوا ما وقع منهم على وجه الصواب و أنهم نظروا إلى مصلحة الإسلام و خافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط بل و تفضي إلى ذهاب النبوة و الملة فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحق إلى فاضل آخر دونه فعقدوا له احتاجوا إلى تأويل هذه الألفاظ الصادرة عمن يعتقدونه في الجلالة و الرفعة قريبا من منزلة النبوة فتأولوها بهذا التأويل و حملوها على التألم للعدول عن الأولى. و ليس هذا بأبعد من تأويل الإمامية قوله تعالى وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى و قولهم معنى عصى أنه عدل عن الأولى لأن الأمر بترك أكل الشجرة كان أمرا على سبيل الندب فلما تركه آدم كان تاركا للأفضل و الأولى فسمي عاصيا باعتبار مخالفة الأولى و حملوا غوى على خاب لا على الغواية بمعنى الضلال و معلوم أن تأويل كلام أمير المؤمنين ع و حمله على أنه شكا من تركهم الأولى أحسن من حمل قوله تعالى وَ عَصى آدَمُ على أنه ترك الأولى.(2/132)
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 158إن قيل لا تخلو الصحابة إما أن تكون عدلت عن الأفضل لعلة و مانع في الأفضل أو لا لمانع فإن كان لا لمانع كان ذلك عقدا للمفضول بالهوى فيكون باطلا و إن كان لمانع و هو ما تذكرونه من خوف الفتنة و كون الناس كانوا يبغضون عليا ع و يحسده فقد كان يجب أن يعذرهم أمير المؤمنين ع في العدول عنه و يعلم أن العقد لغيره هو المصلحة للإسلام فكيف حسن منه أن يشكوهم بعد ذلك و يتوجد عليهم. و أيضا فما معنى قوله فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء على ما تأولتم به كلامه فإن تارك الأولى لا يصال عليه بالحرب. قيل يجوز أن يكون أمير المؤمنين ع لم يغلب على ظنه ما غلب على ظنون الصحابة من الشغب و ثوران الفتنة و الظنون تختلف باختلاف الأمارات فرب إنسان يغلب على ظنه أمر يغلب على ظن غيره خلافه و أما قوله أرتئي بين أن أصول فيجوز أن يكون لم يعن به صيال الحرب بل صيال الجدل و المناظرة يبين ذلك أنه لو كان جادلهم و أظهر ما في نفسه لهم فربما خصموه بأن يقولوا له قد غلب على ظنوننا أن الفساد يعظم و يتفاقم إن وليت الأمر و لا يجوز مع غلبة ظنوننا لذلك أن نسلم الأمر إليك فهو ع قال طفقت أرتئي بين أن أذكر لهم فضائلي عليهم و أحاجهم بها فيجيبوني بهذا الضرب من الجواب الذي تصير حجتي به جذاء مقطوعة و لا قدرة لي على تشييدها و نصرتها و بين أن أصبر على ما منيت به و دفعت إليه. إن قيل إذا كان ع لم يغلب على ظنه وجود العلة و المانع فيه و قد استراب الصحابة و شكاهم لعدولهم عن الأفضل الذي لا علة فيه عنده فقد سلمتم أنه ظلم الصحابة و نسبهم إلى غصب حقه فما الفرق بين ذلك و بين أن يستظلمهم لمخالفة النص و كيف شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 159هربتم من نسبته لهم إلى الظلم لدفع النص و وقعتم في نسبته لهم إلى الظلم لخلاف الأولى من غير علة في الأولى و معلوم أن مخالفة أولى من غير علة في الأولى كتارك النص لأن العقد في كلا الموضعين يكون(2/133)
فاسدا. قيل الفرق بين الأمرين ظاهر لأنه ع لو نسبهم إلى مخالفة النص لوجب وجود النص و لو كان النص موجودا لكانوا فساقا أو كفارا لمخالفته و أما إذا نسبهم إلى ترك الأولى من غير علة في الأولى فقد نسبهم إلى أمر يدعون فيه خلاف ما يدعي ع و أحد الأمرين لازم و هو إما أن يكون ظنهم صحيحا أو غير صحيح فإن كان ظنهم هو الصحيح فلا كلام في المسألة و إن لم يكن ظنهم صحيحا كانوا كالمجتهد إذا ظن و أخطأ فإنه معذور و مخالفة النص أمر خارج عن هذا الباب لأن مخالفه غير معذور بحال فافترق المحملان
مرض رسول الله و أمره أسامة بن زيد على الجيش(2/134)
لما مرض رسول الله ص مرض الموت دعا أسامة بن زيد بن حارثة فقال سر إلى مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك على هذا الجيش و إن أظفرك الله بالعدو فأقلل اللبث و بث العيون و قدم الطلائع فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين و الأنصار إلا كان في ذلك الجيش منهم أبو بكر و عمر فتكلم قوم و قالوا يستعمل هذا الغلام على جلة المهاجرين و الأنصار فغضب رسول الله ص لما سمع ذلك و خرج عاصبا رأسه فصعد المنبر و عليه قطيفة فقال أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة لئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله و ايم الله إن كان لخليقا بالإمارة و ابنه من بعده لخليق بها شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 160و إنهما لمن أحب الناس إلي فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركمثم نزل و دخل بيته و جاء المسلمون يودعون رسول الله ص و يمضون إلى عسكر أسامة بالجرف. و ثقل رسول الله ص و اشتد ما يجده فأرسل بعض نسائه إلى أسامة و بعض من كان معه يعلمونهم ذلك فدخل أسامة من معسكره و النبي ص مغمور و هو اليوم الذي لدوه فيه فتطأطأ أسامة عليه فقبله و رسول الله ص قد أسكت فهو لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة كالداعي له ثم أشار إليه بالرجوع إلى عسكره و التوجه لما بعثه فيه فرجع أسامة إلى عسكره ثم أرسل نساء رسول الله ص إلى أسامة يأمرنه بالدخول و يقلن إن رسول الله ص قد أصبح بارئا فدخل أسامة من معسكره يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول فوجد رسول الله ص مفيقا فأمره بالخروج و تعجيل النفوذ و قال اغد على بركة الله و جعل يقول أنفذوا بعث أسامة و يكرر ذلك فودع رسول الله ص و خرج و معه أبو بكر و عمر فلما ركب جاءه رسول أم أيمن فقال إن رسول الله ص يموت فأقبل و معه أبو بكر و عمر و أبو عبيدة فانتهوا إلى رسول الله ص حين زالت الشمس من هذا اليوم و هو يوم الإثنين و قد مات و اللواء مع بريدة بن الحصيب فدخل باللواء فركزه(2/135)
عند باب رسول الله ص و هو مغلق و علي ع و بعض بني هاشم مشتغلون بإعداد جهازه و غسله فقال العباس لعلي و هما في الدار امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 161اثنان فقال له أ و يطمع يا عم فيها طامع غيري قال ستعلم فلم يلبثا أن جاءتهما الأخبار بأن الأنصار أقعدت سعدا لتبايعه أن عمر جاء بأبي بكر فبايعه و سبق الأنصار بالبيعة فندم علي ع على تفريطه في أمر البيعة و تقاعده عنها و أنشده العباس قول دريد
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد(2/136)