قوله ع و العلم المأثور يجوز أن يكون عنى به القرآن لأن المأثور المحكي و العلم ما يهتدى به و المتكلمون يسمون المعجزات أعلاما و يجوز أن يريد به أحد معجزاته غير القرآن فإنها كثيرة و مأثورة و يؤكد هذا قوله بعد و الكتاب المسطور فدل على تغايرهما و من يذهب إلى الأول يقول المراد بهما واحد و الثانية توكيد الأولى على قاعدة الخطابة و الكتابة. و الصادع الظاهر الجلي قال تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أي أظهره و لا تخفه. و المثلات بفتح الميم و ضم الثاء العقوبات جمع مثلة قال تعالى وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ. و انجذم انقطع و السواري جمع سارية و هي الدعامة يدعم بها السقف و النجرُّ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 137الأصل و مثله النجار و انهارت تساقطت و الشرك الطرائق جمع شراك و الأخفاف للإبل و الأظلاف للبقر و المعز. و قال الراوندي في تفسير قوله خير دار و شر جيران خير دار الكوفة و قيل الشام لأنها الأرض المقدسة و أهلها شر جيران يعني أصحابعاوية و على التفسير الأول يعني أصحابه ع. قال و قوله نومهم سهود يعني أصحاب معاوية لا ينامون طول الليل بل يرتبون أمره و إن كان وصفا لأصحابه ع بالكوفة و هو الأقرب فالمعنى أنهم خائفون يسهرون و يبكون لقلة موافقتهم إياه و هذا شكاية منه ع لهم. و كحلهم دموع أي نفاقا فإنه إذا تم نفاق المرء ملك عينيه. و لقائل أن يقول لم يجر فيما تقدم ذكر أصحابه ع و لا أصحاب معاوية و الكلام كله في وصف أهل الجاهلية قبل مبعث محمد ص ثم لا يخفى ما في هذا التفسير من الركاكة و الفجاجة و هو أن يريد بقوله نومهم سهود أنهم طوال الليل يرتبون أمر معاوية لا ينامون و أن يريد بذلك أن أصحابه يبكون من خوف معاوية و عساكره أو أنهم يبكون نفاقا و الأمر أقرب من أن يتمحل له مثل هذا. و نحن نقول إنه ع لم يخرج من صفة أهل الجاهلية و قوله في خير دار(2/117)


يعني مكة و شر جيران يعني قريشا و هذا لفظ النبي ص حين حكى بالمدينة حالة كانت في مبدأ البعثة فقال كنت في خير دار و شر جيران ثم حكى ع ما جرى له مع عقبة بن أبي معيط و الحديث مشهور. و قوله نومهم سهود و كحلهم دموع مثل أن يقول جودهم بخل و أمنهم خوف أي لو استماحهم محمد ع النوم لجادوا عليه بالسهود عوضا عنه و لو استجداهم الكحل لكان كحلهم الذي يصلونه به الدموع.
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 138ثم قال بأرض عالمها ملجم أي من عرف صدق محمد ص و آمن به في تقية و خوف و جاهلها مكرم أي من جحد نبوته و كذبه في عز و منعة و هذا ظاهروَ مِنْهَا وَ يَعْنِي آلَ النَّبِيِّ ص هُمْ مَوْضِعُ سَرِّهِ وَ لَجَأُ أَمْرِهِ وَ عَيْبَةُ عِلْمِهِ وَ مَوْئِلُ حُكْمِهِ وَ كُهُوفُ كُتُبِهِ وَ جِبَالُ دِينِهِ بِهِمْ أَقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِهِ وَ أَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ
اللجأ ما تلتجئ إليه كالوزر ما تعتصم به و الموئل ما ترجع إليه يقول إن أمر النبي ص أي شأنه ملتجئ إليهم و علمه مودع عندهم كالثوب يودع العيبة. و حكمه أي شرعه يرجع و يؤول إليهم و كتبه يعني القرآن و السنة عندهم فهم كالكهوف له لاحتوائهم عليه و هم جبال دينه لا يتحلحلون عن الدين أو أن الدين ثابت بوجودهم كما أن الأرض ثابتة بالجبال و لو لا الجبال لمادت بأهلها. و الهاء في ظهره ترجع إلى الدين و كذلك الهاء في فرائصه و الفرائص جمع فريصة و هي اللحمة بين الجنب و الكتف لا تزال ترعد من الدابة(2/118)


وَ مِنْهَا فِي الْمُنَافِقِينَ زَرَعُوا الْفُجُورَ وَ سَقَوْهُ الْغُرُورَ وَ حَصَدُوا الثُّبُورَ لَا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ ص مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ وَ لَا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ وَ عِمَادُ الْيَقِينِ إِلَيْهِمْ يَفِي ءُ الْغَالِي وَ بِهِمْ يُلْحَقُ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 139التَّالِي وَ لَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ وَ فِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَ الْوِرَاثَةُ الآْنَ إِذْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ وَ نُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهجعل ما فعلوه من القبيح بمنزلة زرع زرعوه ثم سقوه فالذي زرعوه الفجور ثم سقوه بالغرور و الاستعارة واقعة موقعها لأن تماديهم و ما سكنت إليه نفوسهم من الإمهال هو الذي أوجب استمرارهم على القبائح التي واقعوها فكان ذلك كما يسقى الزرع و يربى بالماء و يستحفظ. ثم قال و حصدوا الثبور أي كانت نتيجة ذلك الزرع و السقي حصاد ما هو الهلاك و العطب. و إشارته هذه ليست إلى المنافقين كما ذكر الرضي رحمه الله و إنما هي إشارة إلى من تغلب عليه و جحد حقه كمعاوية و غيره و لعل الرضي رحمه الله تعالى عرف ذلك و كنى عنه. ثم عاد إلى الثناء على آل محمد ص فقال هم أصول الدين إليهم يفي ء الغالي و بهم يلحق التالي جعلهم كمقنب يسير في فلاة فالغالي منه أي الفارط المتقدم الذي قد غلا في سيره يرجع إلى ذلك المقنب إذا خاف عدوا و من قد تخلف عن ذلك المقنب فصار تاليا له يلتحق به إذا أشفق من أن يتخطف. ثم ذكر خائص حق الولاية و الولاية الإمرة فأما الإمامية فيقولون أراد نص النبي ص عليه و على أولاده و نحن نقول لهم خصائص حق ولاية الرسول ص على الخلق. ثم قال ع و فيهم الوصية و الوراثة أما الوصية فلا ريب عندنا أن عليا ع كان وصي رسول الله ص و إن خالف في ذلك من هو منسوب شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 140عندنا إلى العناد و لسنا نعني بالوصية النص و(2/119)


الخلافة و لكن أمورا أخرى لعلها إذا لمحت أشرف و أجل. و أما الوراثة فالإمامية يحملونها على ميراث المال و الخلافة و نحن نحملها على وراثة العلم. ثم ذكر ع أن الحق رجع الآن إلى أهله و هذا تضي أن يكون فيما قبل في غير أهله و نحن نتأول ذلك على غير ما تذكره الإمامية و نقول إنه ع كان أولى بالأمر و أحق لا على وجه النص بل على وجه الأفضلية فإنه أفضل البشر بعد رسول الله ص و أحق بالخلافة من جميع المسلمين لكنه ترك حقه لما علمه من المصلحة و ما تفرس فيه هو و المسلمون من اضطراب الإسلام و انتشار الكلمة لحسد العرب له و ضغنهم عليه و جائز لمن كان أولى بشي ء فتركه ثم استرجعه أن يقول قد رجع الأمر إلى أهله. و أما قوله و انتقل إلى منتقله ففيه مضاف محذوف تقديره إلى موضع منتقله و المنتقل بفتح القاف مصدر بمعنى الانقال كقولك لي في هذا الأمر مضطرب أي اضطراب قال
قد كان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول و العرض(2/120)


و تقول ما معتقدك أي ما اعتقادك قد رجع الأمر إلى نصابه و إلى الموضع الذي هو على الحقيقة الموضع الذي يجب أن يكون انتقاله إليه. فإن قيل ما معنى قوله ع لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد و لا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا. قيل لا شبهة أن المنعم أعلى و أشرف من المنعم عليه و لا ريب أن محمدا ص شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 141و أهله الأدنين من بني هاشم لا سيما عليا ع أنعموا على الخلق كافة بنعمة لا يقدر قدرها و هي الدعاء إلى الإسلام و الهداية إليه فمحمد ص و إن كان هدى الخلق بالدعوة التي قام بها بلسانه و يده و نصره له تعالى له بملائكته و تأييده و هو السيد المتبوع و المصطفى المنتجب الواجب الطاعة إلا أن لعلي ع من الهداية أيضا و إن كان ثانيا لأول و مصليا على إثر سابق ما لا يجحد و لو لم يكن إلا جهاده بالسيف أولا و ثانيا و ما كان بين الجهادين من نشر العلوم و تفسير القرآن و إرشاد العرب إلى ما لم تكن له فاهمة و لا متصورة لكفى في وجوب حقه و سبوغ نعمته ع. فإن قيل لا ريب في أن كلامه هذا تعريض بمن تقدم عليه فأي نعمة له عليهم قيل نعمتان الأولى منهما الجهاد عنهم و هم قاعدون فإن من أنصف علم أنه لو لا سيف علي ع لاصطلم المشركون من أشار إليه و غيرهم من المسلمين و قد علمت آثاره في بدر و أحد و الخندق و خيبر و حنين و أن الشرك فيها فغرفاه فلو لا أن سده بسيفه لالتهم المسلمين كافة و الثانية علومه التي لولاه لحكم بغير الصواب في كثير من الأحكام و قد اعترف عمر له بذلك و الخبر مشهور لو لا علي لهلك عمر. و يمكن أن يخرج كلامه على وجه آخر و ذلك أن العرب تفضل القبيلة التي منها الرئيس الأعظم على سائر القبائل و تفضل الأدنى منه نسبا فالأدنى على سائر آحاد تلك القبيلة فإن بني دارم يفتخرون بحاجب و إخوته و بزرارة أبيهم على سائر بني تميم و يسوغ للواحد من أبناء بني دارم أن يقول لا يقاس ببني دارم أحد من بني تميم و لا يستوي(2/121)

25 / 150
ع
En
A+
A-