جاء في الخبر الصحيح أن في السماء بيتا يطوف به الملائكة طواف البشر بهذا البيت اسمه الضراح و أن هذا البيت تحته على خط مستقيم و أنه المراد بقوله تعالى وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ أقسم سبحانه به لشرفه و منزلته عنده
و في الحديث أن آدم لما قضى مناسكه و طاف بالبيت لقيته الملائكة فقالت يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام
قال مجاهد إن الحاج إذا قدموا مكة استقبلتهم الملائكة فسلموا على ركبان الإبل و صافحوا ركبان الحمير و اعتنقوا المشاة اعتناقا. من سنة السلف أن يستقبلوا الحاج و يقبلوا بين أعينهم و يسألوهم الدعاء لهم و يبادروا ذلك قبل أن يتدنسوا بالذنوب و الآثام.
و في الحديث أن الله تعالى قد وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف فإن نقصوا أتمهم الله بالملائكة و أن الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة و كل من حجها متعلق بأستارها يسعون حولها حتى تدخل الجنة فيدخلون معها
و في الحديث أن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة و فيه أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة فظن أن الله لا يغفر له
عمر بن ذر الهمداني لما قضى مناسكه أسند ظهره إلى الكعبة و قال مودعا للبيت ما زلنا نحل إليك عروة و نشد إليك أخرى و نصعد لك أكمة و نهبط أخرى و تخفضنا أرض و ترفعنا أخرى حتى أتيناك فليت شعري بم يكون منصرفنا أ بذنب مغفور فأعظم بها من نعمة أم بعمل مردود فأعظم بها من مصيبة فيا من له خرجنا و إليه شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 125قصدنا و بحرمه أنخنا ارحم يا معطي الوفد بفنائك فقد أتيناك بها معراة جلودها ذابلة أسنمتها نقبة أخفافها و إن أعظم الرزية أن نرجع و قد اكتنفتنا الخيبة اللهم و إن للزائرين حقا فاجعل حقنا عليك غفراننوبنا فإنك جواد كريم ماجد لا ينقصك نائل و لا يبخلك سائل. ابن جريج ما ظننت أن الله ينفع أحدا بشعر عمر بن أبي ربيعة حتى كنت باليمن فسمعت منشدا ينشد قوله(2/107)


بالله قولا له في غير معتبة ما ذا أردت بطول المكث في اليمن إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها فما أخذت بترك الحج من ثمنفحركني ذلك على ترك اليمن و الخروج إلى مكة فخرجت فحججت. سمع أبو حازم امرأة حاجة ترفث في كلامها فقال يا أمة الله أ لست حاجة أ لا تتقين الله فسفرت عن وجه صبيح ثم قالت له أنا من اللواتي قال فيهن العرجي
أماطت كساء الخز عن حر وجهها و ردت على الخدين بردا مهلهلامن اللاء لم يحججن يبغين حسبة و لكن ليقتلن البري ء المغفلافقال أبو حازم فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال رحم الله أبا حازم لو كان من عباد العراق لقال لها اعزبي يا عدوة الله و لكنه ظرف نساك الحجاز
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 126فصل في الكلام على السجعو اعلم أن قوما من أرباب علم البيان عابوا السجع و أدخلوا خطب أمير المؤمنين ع في جملة ما عابوه لأنه يقصد فيها السجع و قالوا إن الخطب الخالية من السجع و القرائن و الفواصل هي خطب العرب و هي المستحسنة الخالية من التكلف(2/108)


كخطبة النبي ص في حجة الوداع و هي الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نتوب إليه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له و من يضلل الله فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أوصيكم عباد الله بتقوى الله و أحثكم على العمل بطاعته و أستفتح الله بالذي هو خير أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا أيها الناس إن دماءكم و أموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا أ هل بلغت اللهم اشهد من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها و إن ربا الجاهلية موضوع و أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب و إن دماء الجاهلية موضوعة و أول دم أبدأ به دم آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب و إن مآثر الجاهلية موضوعة غير شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 127السدانة و السقاية و العمد قود و شبه العمد ما قتل بالعصا و الحجر فيه مائة بعير فمن ازداد فهو من الجاهلية أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه و لكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحتقرون من أعمالكم أيها الن إنما النسي ء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما و إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض و إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات و الأرض منها أربعة حرم ثلاثة متواليات و واحد فرد ذو العدة و ذو الحجة و محرم و رجب الذي بين جمادى و شعبان ألا هل بلغت أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقا و لكم عليهن حقا فعليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم و لا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم و لا يأتين بفاحشة فإن فعلن فقد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع و تضربوهن فإن انتهين و أطعنكم فعليكم كسوتهن و رزقهن بالمعروف فإنما النساء عندكم(2/109)


عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا أخذتموهن بأمانة الله و استحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء و استوصوا بهن خيرا شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 128أيها الناس إنما المؤمنون إخوة و لا يحل لرئ مال أخيه إلا على طيب نفس ألا هل بلغت اللهم اشهد ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا كتاب الله ربكم ألا هل بلغت اللهم اشهد أيها الناس إن ربكم واحد و إن أباكم واحد كلكم لآدم و آدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم و ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ألا فليبلغ الشاهد الغائب أيها الناس إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث و لا تجوز وصية في أكثر من الثلث و الولد للفراش و للعاهر الحجر من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فهو ملعون لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا و السلام عليكم و رحمة الله عليكم
و اعلم أن السجع لو كان عيبا لكان كلام الله سبحانه معيبا لأنه مسجوع كله ذو فواصل و قرائن و يكفي هذا القدر وحده مبطلا لمذهب هؤلاء فأما خطبة رسول الله ص هذه فإنها و إن لم تكن ذات سجع فإن أكثر خطبه مسجوع
كقوله إن مع العز ذلا و إن مع الحياة موتا و إن مع الدنيا آخرة و إن لكل شي ء حسابا و لكل حسنة ثوابا و لكل سيئة عقابا و إن على كل شي ء رقيبا و إنه لا بد لك من قرين يدفن معك هو حي و أنت ميت فإن كان كريما أكرمك و إن كان لئيما أسلمك ثم لا يحشر إلا معك و لا تب إلا معه و لا تسأل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحا فإنه إن صلح أنست به و إن فسد لم تستوحش إلا منه و هو عملك(2/110)


فأكثر هذا الكلام مسجوع كما تراه و كذلك خطبه الطوال كلها و أما كلامه شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 129القصير فإنه غير مسجوع لأنه لا يحتمل السجع و كذلك القصير من كلام أمير المؤمنين ع. فأما قولهم إن السجع يدل على التكلف فإن المذموم هو التكلف الذي تظهر سماجته و له للسامعين فأما التكلف المستحسن فأي عيب فيه أ لا ترى أن الشعر نفسه لا بد فيه من تكلف إقامة الوزن و ليس لطاعن أن يطعن فيه بذلك. و احتج عائبو السجع بقوله ع لبعضهم منكرا عليه أ سجعا كسجع الكهان و لو لا أن السجع منكر لما أنكر ع سجع الكهان و أمثاله فيقال لهم إنما أنكر ع السجع الذي يسجع الكهان أمثاله لا السجع على الإطلاق و صورة الواقعة أنه ع أمر في الجنين بغرة فقال قائل أ أدي من لا شرب و لا أكل و لا نطق و لا استهل و مثل هذا يطل فأنكر ع ذلك لأن الكهان كانوا يحكمون في الجاهلية بألفاظ مسجوعة كقولهم حبة بر في إحليل مهر و قولهم عبد المسيح على جمل مشيح لرؤيا الموبذان و ارتجاس الإيوان و نحو ذلك من كلامهم و كان ع قد أبطل الكهانة و التنجيم و السحر و نهى عنها فلما سمع كلام ذلك القائل أعاد الإنكار و مراده به تأكيد تحريم العمل على أقوال الكهنة و لو كان ع قد أنكر السجع لما قاله و قد بينا أن كثيرا من كلامه مسجوع و ذكرنا خطبته. و من كلامه ع المسجوع
خبر ابن مسعود رحمه الله تعالى قال قال رسول الله ص استحيوا من الله حق الحياء فقلنا إنا لنستحيي يا رسول الله من الله تعالى فقال ليس ذلك ما أمرتكم به و إنما الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 130و ما وعى و البطن و ما حوى و تذكر الموت البلى و من أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا
و من ذلك كلامه المشهور لما قدم المدينة ع أول قدومه إليها أيها الناس أفشوا السلام و أطعموا الطعام و صلوا الأرحام و صلوا بالليل و الناس نيام تدخلوا الجنة بسلام(2/111)

23 / 150
ع
En
A+
A-