وَ اصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ وَ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ وَ اجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَ اقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ وَ يُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ وَ مَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِيهِمْ وَ أَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ وَ أَحْدَاثٍ تَتَتَابَعُ عَلَيْهِمْ وَ لَمْ يُخْلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 114أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ وَ لَا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ مِنْ سَابِقٍُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ(2/97)


اجتالتهم الشياطين أدارتهم تقول اجتال فلان فلانا و اجتاله عن كذا و على كذا أي أداره عليه كأنه يصرفه تارة هكذا و تارة هكذا يحسن له فعله و يغريه به. و قال الراوندي اجتالتهم عدلت بهم و ليس بشي ء. و قوله ع واتر إليهم أنبياءه أي بعثهم و بين كل نبيين فترة و هذا ما تغلط فيه العامة فتظنه كما ظن الراوندي أن المراد به المرادفة و المتابعة و الأوصاب الأمراض و الغابر الباقي. و يسأل في هذا الفصل عن أشياء منها عن قوله ع أخذ على الوحي ميثاقهم. و الجواب أن المراد أخذ على أداء الوحي ميثاقهم و ذلك أن كل رسول أرسل فمأخوذ عليه أداء الرسالة كقوله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ. و منها أن يقال ما معنى قوله ع ليستأدوهم ميثاق فطرته هل هذا شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 115إشارة إلى ما يقوله أهل الحد في تفسير قوله تعالى وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى. و الجواب أنه لا حاجة في تفسير هذه اللفظة إلى تصحيح ذلك الخبر و مراده ع بهذا اللفظ أنه لما كانت المعرفة به تعالى و أدلة التوحيد و العدل مركوزة في العقول أرسل سبحانه الأنبياء أو بعضهم ليؤكدوا ذلك المركوز في العقول و هذه هي الفطرة المشار إليها
بقوله ع كل مولود يولد على الفطرة(2/98)


و منها أن يقال إلى ما ذا يشير بقوله أو حجة لازمة هل هو إشارة إلى ما يقوله الإمامية من أنه لا بد في كل زمان من وجود إمام معصوم. الجواب أنهم يفسرون هذه اللفظة بذلك و يمكن أن يكون المراد بها حجة العقل. و أما القطب الراوندي فقال في قوله ع و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء الولد يقال على الواحد و الجمع لأنه مصدر في الأصل و ليس بصحيح لأن الماضي فعل بالفتح و المفتوح لا يأتي مصدره بالفتح و لكن فعلا مصدر فعل بالكسر كقولك ولهت عليه ولها و وحمت المرأة وحما. ثم قال إن الله تعالى بعث يونس قبل نوح و هذا خلاف إجماع المفسرين و أصحاب السير. ثم قال و كل واحد من الرسل و الأئمة كان يقوم بالأمر و لا يردعه عن ذلك قلة عدد أوليائه و لا كثرة عدد أعدائه فيقال له هذا خلاف قولك في الأئمة المعصومين فإنك تجيز عليهم التقية و ترك القيام بالأمر إذا كثرت أعداؤهم. و قال في تفسير قوله ع من سابق سمي له من بعده أو غابر عرفه شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 116من قبله كان من ألطاف الأنبياء المتقدمين و أوصيائهم أن يعرفوا الأنبياء المتأخرين و أوصياءهم فعرفهم الله تعالى ذلك و كان من اللطف بالمتأخرين و أوصيائهم أن يعرفوا أحوال المتقدمين من الأنبياء و الأوصياء رفهم الله تعالى ذلك أيضا فتم اللطف لجميعهم. و لقائل أن يقول لو كان ع قال أو غابر عرف من قبله لكان هذا التفسير مطابقا و لكنه ع لم يقل ذلك و إنما قال عرفه من قبله و ليس هذا التفسير مطابقا لقوله عرفه و الصحيح أن المراد به من نبي سابق عرف من يأتي بعده من الأنبياء أي عرفه الله تعالى ذلك أو نبي غابر نص عليه من قبله و بشر به كبشارة الأنبياء بمحمد ع(2/99)


عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ وَ مَضَتِ الدُّهُورُ وَ سَلَفَتِ الآْبَاءُ وَ خَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً ص لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلَادُهُ وَ أَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَ طَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ ص لِقَاءَهُ وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 117وَ لَا عَلَمٍ قَائِمٍ كِتَابَ رَبِّكُمْ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَ حَرَامَهُ وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ ورُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ مُفَسِّراً جُمَلَهُ وَ مُبَيِّناً غَوَامِضَهُ بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى الْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِي الْكِتَابِ فَرْضُهُ وَ مَعْلُومٍ فِي السُّنَّةِ نَسْخُهُ وَ وَاجِبٍ فِي السُّنَّةِ أَخْذُهُ وَ مُرَخَّصٍ فِي الْكِتَابِ تَرْكُهُ وَ بَيْنَ وَاجِبٍ لِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَ مُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ(2/100)


غُفْرَانَهُ وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ وَ مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ
قوله ع نسلت القرون ولدت و الهاء في قوله لإنجاز عدته راجعة إلى البارئ سبحانه و الهاء في قوله و إتمام نبوته راجعة إلى محمد ص و قوله مأخوذ على النبيين ميثاقه قيل لم يكن نبي قط إلا و بشر بمبعث محمد ص و أخذ عليه تعظيمه و إن كان بعد لم يوجد. فأما قوله و أهل الأرض يومئذ ملل متفرقة فإن العلماء يذكرون أن النبي ص بعث و الناس أصناف شتى في أديانهم يهود و نصارى و مجوس و صائبون و عبده أصنام و فلاسفة و زنادقة.
القول في أديان العرب في الجاهلية
فأما الأمة التي بعث محمد ص فيها فهم العرب و كانوا أصنافا شتى شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 118فمنهم معطلة و منهم غير معطلة فأما المعطلة منهم فبعضهم أنكر الخالق و البعث و الإعادة و قالوا ما قال القرآن العزيز عنهم ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ حْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ فجعلوا الجامع لهم الطبع و المهلك لهم الدهر و بعضهم اعترف بالخالق سبحانه و أنكر البعث و هم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ و منهم من أقر بالخالق و نوع من الإعادة و أنكروا الرسل و عبدوا الأصنام و زعموا أنها شفعاء عند الله في الآخرة و حجوا لها و نحروا لها الهدي و قربوا لها القربان و حللوا و حرموا و هم جمهور العرب و هم الذين قال الله تعالى عنهم وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ. فممن نطق شعره بإنكار البعث بعضهم يرثي قتلى بدر(2/101)

21 / 150
ع
En
A+
A-