و قال مرة أخرى لما قال له موسى أرني فقال لن قال هذا شغلك تصطفي آدم ثم تسود وجهه و تخرجه من الجنة و تدعوني إلى الطور ثم تشمت بي الأعداء هذا عملك بالأحباب فكيف تصنع بالأعداء. و قال مرة أخرى و قد ذكر إبليس على المنبر لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت و أن قسي القدر إذا رمت أصمت ثم قال لسان حال آدم ينشد في قصته و قصة إبليس
و كنت و ليلى في صعود من الهوى فلما توافينا ثبت و زلت
و قال مرة أخرى التقى موسى و إبليس عند عقبة الطور فقال موسى يا إبليس لم لم تسجد لآدم فقال كلا ما كنت لأسجد لبشر كيف أوحده ثم ألتفت إلى غيره و لكنك أنت يا موسى سألت رؤيته ثم نظرت إلى الجبل فأنا أصدق منك في التوحيد. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 108و كان هذا الط في كلامه ينفق على أهل بغداد و صار له بينهم صيت مشهور و اسم كبير و حكى عنه أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ أنه قال على المنبر معاشر الناس إني كنت دائما أدعوكم إلى الله و أنا اليوم أحذركم منه و الله ما شدت الزنانير إلا في حبه و لا أديت الجزية إلا في عشقه. و قال أيضا إن رجلا يهوديا أدخل عليه ليسلم على يده فقال له لا تسلم فقال له الناس كيف تمنعه من الإسلام فقال احملوه إلى أبي حامد يعني أخاه ليعلمه لا لا المنافقين ثم قال ويحكم أ تظنون أن قوله لا إله إلا الله منشور ولايته ذا منشور عزله و هذا نوع تعرفه الصوفية بالغلو و الشطح. و يروى عن أبي يزيد البسطامي منه كثير. و مما يتعلق بما نحن فيه ما رووه عنه من قوله
فمن آدم في البين و من إبليس لولاكافتنت الكل و الكل مع الفتنة يهواكا
و يقال أول من قاس إبليس فأخطأ في القياس و هلك بخطئه و يقال إن أول حمية و عصبية ظهرت عصبية إبليس و حميته
اختلاف الأقوال في خلق الجنة و النار(2/92)
فإن قيل فما قول شيوخكم في الجنة و النار فإن المشهور عنهم أنهما لم يخلقا و سيخلقان شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 109عند قيام الأجسام و قد دل القرآن العزيز و نطق كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل بأن آدم كان في الجنة و أخرج منها. قيل قد اختلف شيوخنا رحمهم اللهي هذه المسألة فمن ذهب منهم إلى أنهما غير مخلوقتين الآن يقول قد ثبت بدليل السمع أن سائر الأجسام تعدم و لا يبقى في الوجود إلا ذات الله تعالى بدليل قوله كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ و قوله هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ فلما كان أولا بمعنى أنه لا جسم فيالوجود معه في الأزل وجب أن يكون آخرا بمعنى أنه لا يبقى في الوجود جسم من الأجسام معه فيما لا يزال و بآيات كثيرة أخرى و إذا كان لا بد من عدم سائر الأجسام لم يكن في خلق الجنة و النار قبل أوقات الجزاء فائدة لأنه لا بد أن يفنيهما مع الأجسام التي تفنى يوم القيامة فلا يبقى مع خلقهما من قبل معنى و يحملون الآيات التي دلت على كون آدم ع كان في الجنة و أخرج منها على بستان من بساتين الدنيا قالوا و الهبوط لا يدل على كونهما في السماء لجواز أن يكون في الأرض إلا أنهما في موضع مرتفع عن سائر الأرض. و أما غير هؤلاء من شيوخنا فقالوا إنهما مخلوقتان الآن و اعترفوا بأن آدم كان في جنة الجزاء و الثواب و قالوا لا يبعد أن يكون في إخبار المكلفين بوجود الجنة و النار لطف لهم في التكليف و إنما يحسن الإخبار بذلك إذا كان صدقا و إنما يكون صدقا إذا كان خبره على ما هو عليه
القول في آدم و الملائكة أيهما أفضل(2/93)
فإن قيل فما الذي يقوله شيوخكم في آدم و الملائكة أيهما أفضل. قيل لا خلاف بين شيوخنا رحمهم الله أن الملائكة أفضل من آدم و من جميع الأنبياء شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 110ع و لو لم يدل على ذلك إلا قوله تعالى في هذه القصة إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَونا مِنَ الْخالِدِينَ لكفى. و قد احتج أصحابنا أيضا بقوله تعالى لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ و هذا كما تقول لا يستنكف الوزير أن يعظمني و يرفع من منزلتي و لا الملك أيضا فإن هذا يقتضي كون الملك أرفع منزلة من الوزير و كذلك قوله وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ يقتضي كونهم أرفع منزلة من عيسى. و مما احتجوا به قولهم إنه تعالى لما ذكر جبريل و محمدا ع في معرض المدح مدح جبريل ع بأعظم مما مدح به محمدا ع فقال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ فالمديح الأول لجبريل و الثاني لمحمد ع و لا يخفى تفاوت ما بين المدحين. فإن قيل فهل كان إبليس من الملائكة أم من نوع آخر قيل قد اختلف في ذلك فمن قال إنه من الملائكة احتج بالاستثناء في قوله فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ و قال إن الاستثناء من غير الجنس خلاف الأصل و من قال إنه لم يكن منهم احتج بقوله تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. و أجاب الأولون عن هذا فقالوا إن الملائكة يطلق عليهم لفظ الجن لاجتنانهم و استتارهم عن الأعين و قالوا قد ورد ذلك في القرآن أيضا في قوله تعالى وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 111وَ بَيْنَ الْجِنَّ نَسَباً و الجنة هاهنا هم الملائكة لأنهم قالوا إن الملائكة بنات(2/94)
الله بدليل قوله أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً و كتب التفسير تشتمل من هذا على ما لا نرى الإطالة بذكره فأما القطب الراوندي فقال في هذين الفصلين في تفسير ألفاظهما اللغوية العذب من الأرض ما ينبت و السبخ ما لا ينبت و هذا غير صحيح لأن السبخ ينبت النخل فيلزم أن يكون عذبا على تفسيره. و قال فجبل منها صورة أي خلق خلقا عظيما و لفظة جبل في اللغة تدل على خلق سواء كان المخلوق عظيما أو غير عظيم. و قال الوصول جمع وصل و هو العضو و كل شي ء اتصل بشي ء فما بينهما وصلة و الفصول جمع فصل و هو الشي ء المنفصل و ما عرفنا في كتب اللغة أن الوصل هو العضو و لا قيل هذا. و قوله بعد ذلك و كل شي ء اتصل بشي ء فما بينهما وصلة لا معنى لذعد ذلك التفسير و الصحيح أن مراده ع أظهر من أن يتكلف له هذا التكلف و مراده ع أن تلك الصورة ذات أعضاء متصلة كعظم الساق أو عظم الساعد و ذات أعضاء منفصلة في الحقيقة و إن كانت متصلة بروابط خارجة عن ذواتها كاتصال الساعد بالمرفق و اتصال الساق بالفخذ. ثم قال يقال استخدمته لنفسي و لغيري و اختدمته لنفسي خاصة و هذا مما لم أعرفه و لعله نقله من كتاب. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 112ثم قال و الإذعان الانقياد و الخنوع الخضوع و إنما كرر الخنوع بعد الإذعان لأن الأول يفيد أنهم أمروا بالخضوع له في السجود و الثاني يفيد ثباتهم ع الخضوع لتكرمته أبدا. و لقائل أن يقول إنه لم يكرر لفظة الخنوع و إنما ذكر أولا الإذعان و هو الانقياد و الطاعة و معناه أنهم سجدوا ثم ذكر الخنوع الذي معناه الخضوع و هو يعطي معنى غير المعنى الأول لأنه ليس كل ساجد خاضعا بقلبه فقد يكون ساجدا بظاهره دون باطنه و قول الراوندي أفاد بالثاني ثباتهم على الخضوع له لتكرمته أبدا تفسير لا يدل عليه اللفظ و لا معنى الكلام. ثم قال قبيل إبليس نسله قال تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ و كل جيل(2/95)
من الإنس و الجن قبيل و الصحيح أن قبيله نوعه كما أن البشر قبيل كل بشري سواء كانوا من ولده أو لم يكونوا و قد قيل أيضا كل جماعة قبيل و إن اختلفوا نحو أن يكون بعضهم روما و بعضهم زنجا و بعضهم عربا و قوله تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ لا يدل على أنهم نسله. و قوله بعد و كل جيل من الإنس و الجن قبيل ينقض دعواه أن قبيله لا يكون إلا نسله. ثم تكلم في المعاني فقال إن القياس الذي قاسه إبليس كان باطلا لأنه ادعى أن النار أشرف من الأرض و الأمر بالعكس لأن كل ما يدخل إلى النار ينقص و كل ما يدخل التراب يزيد و هذا عجيب فإنا نرى الحيوانات الميتة إذا دفنت في الأرض تنقص أجسامها و كذلك الأشجار المدفونة في الأرض على أن التحقيق أن المحترق بالنار و البالي بالتراب لم تعدم أجزاؤه و لا بعضها و إنما استحالت إلى صور أخرى. شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 113ثم قال و لما علمنا أن تقديم المفضول على الفاضل قبيح علمنا أن آدم كان أفضل من الملائكة في ذلك الوقت و فيماعده. و لقائل أن يقول أ ليس قد سجد يعقوب ليوسف ع أ فيدل ذلك على أن يوسف أفضل من يعقوب و لا يقال إن قوله تعالى وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً لا يدل على سجود الوالدين فلعل الضمير يرجع إلى الإخوة خاصة لأنا نقول هذا الاحتمال مدفوع بقوله وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ و هو كناية عن الوالدين. و أيضا قد بينا أن السجود إنما كان لله سبحانه و أن آدم كان قبلة و القبلة لا تكون أفضل من الساجد إليها أ لا ترى أن الكعبة ليست أفضل من النبي ع(2/96)