السفر الأول كلاما يناسب هذا و هو أن الله تعالى خلق جوهرا فنظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء ثم ارتفع من ذلك الماء بخار كالدخان فخلق منه السموات و ظهر على وجه ذلك الماء زبد فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال. و منها أن السماء الدنيا موج مكفوف بخلاف السموات الفوقانية و هذا أيضا قول قد ذهب إليه قوم و استدلوا عليه بما نشاهده من حركة الكواكب المتحيرة و ارتعادها في مرأى العين و اضطرابها قالوا لأن المتحيرة متحركة في أفلاكها و نحن نشاهدها بالحس البصري و بيننا و بينها أجرام الأفلاك الشفافة و نشاهدها مرتعدة حسب ارتعاد الجسم السائر في الماء و ما ذاك إلا لأن السماء الدنيا ماء متموج فارتعاد الكواكب شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 86المشاهدة حسا إنما هو بحسب ارتعاد أجزاء الفلك الأدنى قالوا فأما الكواكب البتة فإنا لم نشاهدها كذلك لأنها ليست بمتحركة و أما القمر و إن كان في السماء الدنيا إلا أن فلك تدويره من جنس الأجرام الفوقانية و ليس بماء متموج كالفلك الممثل التحتاني و كذلك القول في الشمس. و منها أن الكواكب في قوله ثم زينها بزينة الكواكب أين هي فإن اللفظ محتمل و ينبغي أن يتقدم على ذلك بحث في أصل قوله تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. فنقول إن ظاهر هذا اللفظ أن الكواكب في السماء الدنيا و أنها جعلت فيها حراسة للشياطين من استراق السمع فمن دنا منهم لذلك رجم بشهاب و هذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ و مذهب الحكماء أن السماء الدنيا ليس فيها إلا القمر وحده و عندهم أن الشهب المنقضة هي آثار تظهر في الفلك الأثيري الناري الذي تحت فلك القمر و الكواكب لا ينقض منها شي ء و الواجب التصديق بما في ظاهر لفظ الكتب العزيز و أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع على مطابقته فيكون الضمير في قوله زينها راجعا إلى سفلاهن التي قال إنها موج مكفوف و يكون(2/72)


الضمير في قوله و أجرى فيها راجعا إلى جملة السموات إذا وافقنا الحكماء في أن الشمس في السماء الرابعة. و منها أن ظاهر الكلام يقتضي أن خلق السموات بعد خلق الأرض أ لا تراه كيف لم يتعرض فيه لكيفية خلق الأرض أصلا و هذا قول قد ذهب إليه جماعة من أهل الملة
شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 87و استدلوا عليه بقوله تعالى قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ثم قال ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ. و منها أن الهاء قوله فرفعه في هواء منفتق و الهاء في قوله فسوى منه سبع سموات إلى ما ذا ترجع فإن آخر المذكورات قبلها الزبد و هل يجوز أن تكون السموات مخلوقة من زبد الماء الحق أن الضمائر ترجع إلى الماء الذي عب عبابه لا إلى الزبد فإن أحدا لم يذهب إلى أن السماء مخلوقة من زبد الماء و إنما قالوا إنها مخلوقة من بخاره. و منها أن يقال إن البارئ سبحانه قادر على خلق الأشياء إبداعا و اختراعا فما الذي اقتضى أنه خلق المخلوقات على هذا الترتيب و هلا أوجدها إيجاد الماء الذي ابتدعه أولا من غير شي ء. فيقال في جواب ذلك على طريق أصحابنا لعل إخاره للمكلفين بذلك على هذا الترتيب يكون لطفا بهم و لا يجوز الإخبار منه تعالى إلا و المخبر عنه مطابق للإخبار. فهذا حظ المباحث المعنوية من هذا الفصل. ثم نشرع في تفسير ألفاظه أما الأجواء فجمع جو و الجو هنا الفضاء العالي بين السماء و الأرض و الأرجاء شرح نهج الاغة ج : 1 ص : 88الجوانب واحدها رجا مثل عصا و السكائك جمع سكاكة و هي أعلى الفضاء كما قالوا ذؤابة و ذوائب و التيار الموج و المتراكم الذي بعضه فوق بعض و الزخار الذي يزخر أي يمتد و يرتفع و الريح الزعزع الشديدة الهبوب و كذلك القاصفة كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها و معنى قوله فأمرها برده أي بمنعه عن الهبوط لأن الماء ثقيل و من شأن الثقيل(2/73)


الهوي و معنى قوله و سلطها على شدة أي على وثاقة كأنه سبحانه لما سلط البريح على منعه من الهبوط فكأنه قد شده بها و أوثقه و منعه من الحركة و معنى قوله و قرنها إلى حده أي جعلها مكانا له أي جعل حد الماء المذكور و هو سطحه الأسفل مما ساطح الريح التي تحمله و تقله و الفتيق المفتوق المنبسط و الدفيق المدفوق و اعتقم مهبها أي جعل هبوبها عقيما و الريح العقيم التي لا تلقح سحابا و لا شجرا و كذلك كانت تلك الريح المشار إليها لأنه سبحانه إنما خلقها لتمويج الماء فقط و أدام مربها أي ملازمتها أرب بالمكان مثل ألب به أي لازمه. و معنى قوله و عصفت به عصفها بالفضاء فيه معنى لطيف يقول إن الريح إذا عصفت بالفضاء الذي لا أجسام فيه كان عصفها شديدا لعدم المانع و هذه الريح عصفت بذلك الماء العظيم عصفا شديدا كأنها تعصف في فضاء لا ممانع لها فيه من الأجسام. و الساجي الساكن و المائر الذي يذهب و يجي ء و عب عبابه أي ارتفع أعلاه و ركامه ثبجه و هضبه و الجو المنفهق المفتوح الواسع و الموج المكفوف الممنوع من السيلان و عمد يدعمها يكون لها دعامة و الدسار واحد الدسر و هي المسامير. والثواقب النيرة المشرقة و سراجا مستطيرا أي منتشر الضوء يقال قد استطار(2/74)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 89الفجر أي انتشر ضوءه و رقيم مائر أي لوح متحرك سمي الفلك رقيما تشبيها باللوح لأنه مسطح فأما القطب الراوندي فقال إنه ع ذكر قبل هذه الكلمات أنه أنشأ حيوانا له أعضاء و أحناء ثم ذكر هاهنا أنه فتق السماء و ميز بعضها عن بعض ثم ذكر أنين كل سماء و سماء مسيرة خمسمائة عام و هي سبع سموات و كذلك بين كل أرض و أرض و هي سبع أيضا و روى حديث البقرة التي تحمل الملك الحامل للعرش و الصخرة التي تحمل البقرة و الحوت الذي يحمل الصخرة. و لقائل أن يقول إنه ع لم يذكر فيما تقدم أن الله تعالى خلق حيوانا ذا أعضاء و لا قوله الآن ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء هو معنى قوله تعالى أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما أ لا تراه كيف صرح ع بأن البارئ سبحانه خلق الهواء الذي هو الفضاء و عبر عن ذلك بقوله ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء و ليس فتق الأجواء هو فتق السماء. فإن قلت فكيف يمكن التطبيق بين كلامه ع و بين الآية. قلت إنه تعالى لما سلط الريح على الماء فعصفت به حتى جعلته بخارا و زبدا و خلق من أحدهما السماء و من الآخر الأرض كان فاتقا لهما من شي ء واحد و هو الماء. فأما حديث البعد بين السموات و كونه مسير خمسمائة عام بين كل سماء و سماء فقد ورد ورودا لم يوثق به و أكثر الناس على خلاف ذلك و كون الأرض سبعا أيضا شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 90خلاف ما يقوله جمهور العقلاء و ليس في القرآن العزيز ما يدل على تعدد الأرض إلا قوله تعالى وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ و قأولوه على الأقاليم السبعة و حديث الصخرة و الحوت و البقرة من الخرافات في غالب الظن و الصحيح أن الله تعالى يمسك الكل بغير واسطة جسم آخر. ثم قال الراوندي السكائك جمع سكاك و هذا غير جائز لأن فعالا لا يجمع على فعائل و إنما هو جمع سكاكة ذكر ذلك الجوهري. ثم قال و سلطها على شده الشد العدو و لا يجوز حمل الشد هاهنا على العدو لأنه لا(2/75)


معنى له و الصحيح ما ذكرناه. و قال في تفسير قوله ع جعل سفلاهن موجا مكفوفا أراد تشبيهها بالموج لصفائها و اعتلائها فيقال له إن الموج ليس بعال ليشبه به الجسم العالي و أما صفاؤه فإن كل السموات صافية فلما ذا خص سفلاهن بذلك. ثم قال و يمكن أن تكون السماء السفلى قد كانت أول ما وجدت موجا ثم عقدها يقال له و السموات الأخر كذلك كانت فلما ذا خص السفلى بذلك. ثم قال الريح الأولى غير الريح الثانية لأن إحداهما معرفة و الأخرى نكرة و هذا مثل قوله صم اليوم صم يوما فإنه يقتضي يومين. يقال له ليست المغايرة بينهما مستفادة من مجرد التعريف و التنكير لأنه لو كان قال شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 91ع و حمله على متن ريح عاصفة و زعزع قاصفة لكانت الريحان الأولى و الثانية منكرتين معا و هما متغايرتان و إنما علمنا تغايرهما لأنحداهما تحت الماء و الأخرى فوقه و الجسم الواحد لا يكون في جهتين(2/76)

16 / 150
ع
En
A+
A-