شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 66وجوه فروع نعمائه و كذلك في كون الآية واردة بلفظة إن الشرطية و كلام أمير المؤمنين ع على صيغة الخبر تحته لطيفة عجيبة لأنه سبحانه يريد أنكم إن أردتم أن تعدوا نعمه لم تقدروا على حصرها و علي ع أخبر أنه قد أنعم النظر فعلم أن أحدا ليمكنه حصر نعمه تعالى. و لقائل أن يقول الصحيح أن المفهوم من قوله وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ الجنس كما يقول القائل أنا لا أجحد إحسانك إلى و امتنانك علي و لا يقصد بذلك إحسانا واحدا بل جنس الإحسان. و ما ذكره من الفرق بين كلام البارئ و كلام أمير المؤمنين ع غير بين فإنه لو قال تعالى و إن تعدوا نعم الله و قال ع و لا يحصي نعمته العادون لكان كل واحد منهما سادا مسد الآخر. أما اللطيفة الثانية فغير ظاهرة أيضا و لا مليحة لأنه لو انعكس الأمر فكان القرآن بصيغة الخبر و كلام علي ع بصيغة الشرط لكان مناسبا أيضا حسب مناسبته و الحال بعكس ذلك اللهم إلا أن تكون قرينة السجعة من كلام علي ع تنبو عن لفظة الشرط و إلا فمتى حذفت القرينة السجعية عن وهمك لم تجد فرقا و نحن نعوذ بالله من التعسف و التعجرف الداعي إلى ارتكاب هذه الدعاوي المنكرة. ثم قال الراوندي إنه لو قال أمير المؤمنين ع الذي لا يعد نعمه الحاسبون لم تحصل المبالغة التي أرادها بعبارته لأن اشتقاق الحساب من الحسبان و هو الظن قال و أما اشتقاق العدد فمن العد و هو الماء الذي له مادة و الإحصاء الإطاقة أحصيته أي أطقته فتقدير الكلام لا يطيق عد نعمائه العادون و معنى ذلك شرح نهج الاغة ج : 1 ص : 67أن مدائحه تعالى لا يشرف على ذكرها الأنبياء و المرسلون لأنها أكثر من أن تعدها الملائكة المقربون و الكرام الكاتبون. و لقائل أن يقول أما الحساب فليس مشتقا من الحسبان بمعنى الظن كما توهمه بل هو أصل برأسه أ لا ترى أن أحدهما حسبت أحسب و الآخر حسبت أحسب و أحسب بالفتح و الضم و هو من الألفاظ الأربعة التي جاءت شاذة(2/52)


و أيضا فإن حسبت بمعنى ظننت يتعدى إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما و حسبت من العدد يتعدى إلى مفعول واحد ثم يقال له و هب أن الحاسبين لو قالها مشتقة من الظن لم تحصل المبالغة بل المبالغة كادت تكون أكثر لأن النعم التي لا يحصرها الظان بظنونه أكثر من النعم التي لا يعدها العالم بعلومه و أما قوله العدد مشتق من العد و هو الماء الذي له مادة فليس كذلك بل هما أصلان و أيضا لو كان أحدهما مشتقا من الآخر لوجب أن يكون العد مشتقا من العدد لأن المصادر هي الأصول التي يقع الاشتقاق منها سواء أ كان المشتق فعلا أو اسما أ لا تراهم قالوا في كتب الاشتقاق أن الضرب الرجل الخفيف مشتق من الضرب أي السير في الأرض للابتغاء قال الله تعالى لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ فجعل الاسم منقولا و مشتقا من المصدر. و أما الإحصاء فهو الحصر و العد و ليس هو الإطاقة كما ذكر لا يقال أحصيت الحجر أي أطقت حمله. و أما ما قال إنه معنى الكلمة فطريف لأنه ع لم يذكر الأنبياء و لا(2/53)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 68الملائكة لا مطابقة و لا تضمنا و لا التزاما و أي حاجة إلى هذا التقدير الطريف الذي لا يشعر الكلام به و مراده ع و هو أن نعمه جلت لكثرتها أن يحصيها عاد ما هو نفي لمطلق العادين من غير تعرض لعاد مخصوص. قال الراوندي فأما قوله لا يدر بعد الهمم فالإدراك هو الرؤية و النيل و الإصابة و معنى الكلام الحمد لله الذي ليس بجسم و لا عرض إذ لو كان أحدهما لرآه الراءون إذا أصابوه و إنما خص بعد الهمم بإسناد نفي الإدراك و غوص الفطن بإسناد نفي النيل لغرض صحيح و ذلك أن الثنوية يقولون بقدم النور و الظلمة و يثبتون النور جهة العلو و الظلمة جهة السفل و يقولون إن العالم ممتزج منهما فرد ع عليهم بما معناه أن النور و الظلمة جسمان و الأجسام محدثة و البارئ تعالى قديم. و لقائل أن يقول إنه لم يجر للرؤية ذكر في الكلام لأنه ع لم يقل الذي لا تدركه العيون و لا الحواس و إنما قال لا يدركه بعد الهمم و هذا يدل على أنه إنما أراد أن العقول لا تحيط بكنهه و حقيقته. و أيضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤية لكان لمحاج أن يحاجه فيقول له هب أن الأمر كما تزعم أ لست تريد بيان الأمر الذي لأجله خصص بعد الهمم بنفي الإدراك و خصص غوص الفطن بنفي النيل و قلت إنما قسم هذا التقسيم لغرض صحيح و ما رأيناك أوضحت هذا الغرض و إنما حكيت مذهب الثنوية و ليس يدل مذهبهم على وجوب تخصيص بعد الهمم بنفي الإدراك دون نفي النيل و لا يوجب تخصيص غوص الفطن شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 69بنفي النيل دون نفي الإدراك و أكثما في حكاية مذهبهم أنهم يزعمون أن إلهي العالم النور و الظلمة و هما جسمان و أمير المؤمنين ع يقول لو كان صانع العالم جسما لرئي و حيث لم ير لم يكن جسما أي شي ء في هذا مما يدل على وجوب ذلك التقسيم و التخصيص الذي زعمت أنه إنما خصصه و قسمه لغرض صحيح. ثم قال الروندي و يجوز أن يقال البعد و الغوص مصدران هاهنا بمعنى الفاعل كقولهم(2/54)


فلأن عدل أي عادل و قوله تعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا فيكون المعنى لا يدركه العالم البعيد الهمم فكيف الجاهل و يكون المقصد بذلك الرد على من قال إن محمدا ص رأى ربه ليلة الإسراء و إن يونس ع رأى ربه ليلة هبوطه إلى قعر البحر. و لقائل أن يقول أن المصدر الذي جاء بمعنى الفاعل ألفاظ معدودة لا يجوز القياس عليها و لو جاز لما كان المصدر هاهنا بمعنى الفاعل لأنه مصدر مضاف و المصدر المضاف لا يكون بمعنى الفاعل و لو جاز أن يكون المصدر المضاف بمعنى الفاعل لم يجز أن يحمل كلامه ع على الرد على من أثبت أن البارئ سبحانه مرئي لأنه ليس في الكلام نفي الرؤية أصلا و إنما غرض الكلام نفي معقوليته سبحانه و أن الأفكار و الأنظار لا تحيط بكنهه و لا تتعقل خصوصية ذاته جلت عظمته. ثم قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود و لا نعت موجود و لا وقت معدود و لا أجل ممدود فالوقت تحرك الفلك و دورانه على وجه و الأجل(2/55)


شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 70مدة الشي ء و معنى الكلام أن شكري لله تعالى متجدد عند تجدد كل ساعة و لهذا أبدل هذه الجملة من الجملة التي قبلها و هي الثانية كما أبدل الثانية من الأولى. و لقائل أن يقول الوقت عند أهل النظر مقدار حركة الفلك لا نفس حركته و الأجلس مطلق الوقت أ لا تراهم يقولون جئتك وقت العصر و لا يقولون أجل العصر و الأجل عندهم هو الوقت الذي يعلم الله تعالى أن حياة الحيوان تبطل فيه مأخوذ من أجل الدين و هو الوقت الذي يحل قضاؤه فيه. فأما قوله و معنى الكلام أن شكري متجدد لله تعالى في كل وقت ففاسد و لا ذكر في هذه الألفاظ للشكر و لا أعلم من أين خطر هذا للراوندي و ظنه أن هذه الجمل من باب البدل غلط لأنها صفات كل واحدة منها صفة بعد أخرى كما تقول مررت بزيد العالم الظريف الشاعر. قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد فظاهره إثبات الصفة له سبحانه و أصحابنا لا يثبتون لله سبحانه صفة كما يثبتها الأشعرية لكنهم يجعلونه على حال أو يجعلونه متميزا بذاته فأمير المؤمنين ع بظاهر كلامه و إن أثبت له صفة إلا أن من له أنس بكلام العرب يعلم أنه ليس بإثبات على الحقيقة و قد سألني سائل فقال هاهنا كلمتان إحداهما كفر و الأخرى ليست بكفر و هما لله تعالى شريك غير بصير ليس شريك الله تعالى بصيرا فأيهما كلمة الكفر فقلت له القضية الثانية و هي ليس شريك الله تعالى بصيرا كفر لأنها تتضمن إثبات الشريك و أما الكلمة الأخرى فيكون معناها لله شريك غير بصير بهمزة الاستفهام المقدرة المحذوفة. شرح نهجلبلاغة ج : 1 ص : 71ثم أخذ في كلام طويل يبحث فيه عن الصفة و المعنى و يبطل مذهب الأشعرية بما يقوله المتكلمون من أصحابنا و أخذ في توحيد الصفة لم جاء و كيف يدل نفي الصفة الواحدة على نفي مطلق الصفات و انتقل من ذلك إلى الكلام في الصفة الخامسة التي أثبتها أبو هاشم ثم خرج إلى مذهب أبي الحسين و أطال جدا فيما لا حاجة إليه. و لقائل(2/56)

12 / 150
ع
En
A+
A-