ترجمة أبي الفرج الأصفهاني مؤلف كتاب الأغاني [1]
نسبه:
هو أبو الفرج عليّ بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد اللّه بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي الأمويّ الكاتب الأصبهانيّ صاحب «كتاب الأغاني». ومنه ترى أن نسبه ينتهي إلى مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
مولده ومنشؤه:
ولد بأصبهان سنة 284 أربع وثمانين ومائتين، في خلافة المعتضد باللّه أبي العباس أحمد بن الموفق، وهي السنة التي مات فيها البحتري الشاعر. ونشأ ببغداد واستوطن بها، وكانت داره ببغداد واقعة على دجلة في المكان المتوسط بين درب سليمان ودرب دجلة وملاصقة لدار أبي الفتح البريدي.
شيوخه وتلاميذه:
روى أبو الفرج عن عالم كثير يطول تعدادهم، وسمع من جماعة لا يحصون: منهم أبو بكر [2] بن دريد وأبو بكر [3] بن الأنباري والفضل [4] بن الحباب الجمحي وعليّ [5] بن سليمان الأخفش، وإبراهيم [6] نفطويه
__________
[1] المصادر التي أخذنا منها هذه الترجمة هي:
«معجم الأدباء» لياقوت، «وفيات الأعيان» لابن خلكان، «عيون التواريخ» لابن شاكر، «الفهرست» لابن النديم، «الكامل» لابن الأثير، «نفح الطيب»، «مقدّمة ابن خلدون»، «النجوم الزاهرة في أعيان مصر والقاهرة»، «الجمهرة» لابن حزم، «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» لابن الجوزي، «يتيمة الدهر»، «كشف الظنون»، كتاب «رنّات الثالث والمثاني في روايات الأغاني».
[2] هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد إمام عصره في اللغة والأدب والشعر، ولد بالبصرة في سنة ثلاث وعشرين ومائتين ونشأ بها وتعلم فيها وانتقل إلى عمان ثم إلى فارس ثم إلى بغداد، وتوفي بها سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. (انظر ابن خلكان ج 1 من ص 709 - 713 طبع بولاق).
[3] هو محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري، روى عن أبيه عن أبي جعفر أحمد بن عبيد، وأخذ النحو عن أبي العباس ثعلب، وكان في نهاية الذكاء والفطنة وجودة القريحة وسرعة الحفظ وكان يضرب به المثل في حضور البديهة وسرعة الجواب، وأكثر ما كان يمليه من غير دفتر ولا كتاب، ولم يمت من سنّ عالية مات عن دون الخمسين وتوفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ودفن بداره بالأنبار. («الفهرست» لابن النديم طبع ليبزج ص 75).
[4] هو أبو خليفة الفضل بن الحباب بن محمد بن شعيب بن صخر الجمحي البصري من رواة الأخبار والأشعار والأنساب، ولي قضاء البصرة، وتوفي سنة خمس وثلاثمائة. «الفهرست» ص 114).
[5] هو أبو الحسن علي بن سليمان بن الفضل المعروف بالأخفش الأصغر. قرأ على ثعلب والمبرد واليزيدي وأبي العيناء وروى عنه المرزبانيّ وكان ثقة. وهو غير الأخفش الأكبر أبي الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد من أهل هجر، والأخفش الأوسط أبي الحسن سعيد بن مسعدة صاحب سيبويه. وقد هجاه ابن الرومي بأهاج كثيرة لأنه كان كثير التطير منه. توفي ببغداد سنة خمس عشرة وثلاثمائة ويقال سنة ست عشرة. (ابن خلكان ص 472 ج 1 و «بغية الوعاة» للسيوطي).
[6] هو إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الملقب بنفطويه لشبهه بالنفط لدمامته

ومحمد [1] بن جرير الطبري وأحمد [2] بن جعفر جحظة ومحمد [3] بن خلف المرزبان وجعفر [4] بن قدامة وأبي [5] أحمد يحيى بن علي بن يحيى المنجم وعمه الحسن [6] بن محمد وغيرهم، وروى عنه الدار قطنيّ [7] وغيره.
ثناء العلماء عليه
ذكره ياقوت في «معجمه» فقال: «العلامة النساب الإخباريّ الحفظة الجامع بين سعة الرواية والحذق في الدراسة، لا أعلم لأحد أحسن من تصانيفه في فنها وحسن استيعاب ما يتصدّى لجمعه، وكان مع ذلك شاعرا جيدا».
وذكره ابن خلكان في «الوفيات» فقال: «كان من أعيان أدبائها (بغداد) وأفراد مصنفيها. روى عن عالم كثير من العلماء يطول تعدادهم، وكان عالما بأيام الناس والأنساب والسير. قال التنوخي: ومن المتشيعين الذين شاهدناهم أبو الفرج الأصبهاني كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب ما لم أر
__________
وأدمته. كان عالما بالعربية واللغة والحديث، أخذ عن ثعلب والمبرد وكان صادقا فيما يرويه حافظا للقرآن فقيها على مذهب داود الظاهريّ مسندا في الحديث حافظا للسير وأيام الناس والتواريخ. ولد بواسط سنة أربع وأربعين ومائتين وسكن بغداد وتوفي بها سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. (ابن خلكان ج 1 ص 15 و «بغية الوعاة» للسيوطي).
[1] هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري وقيل: يزيد بن كثير بن غالب، صاحب «التفسير الكبير والتاريخ الشهير»، كان إماما في فنون كثيرة: منها التفسير والحديث والفقه والتاريخ وكان إماما مجتهدا وكان ثقة في نقله أصح التواريخ وأثبتها. ولد سنة أربع وعشرين ومائتين بآمل طبرستان وتوفي ببغداد سنة عشر وثلاثمائة. (ابن خلكان ج 1 ص 651).
[2] هو أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك. شاعر مغن مطبوع في الشعر حاذق بصناعة غناء الطنبور حسن الأدب بارع في معناه. وكان من ظرفاء عصره. وهو من ذريّة البرامكة. وقد جمع أبو نصر بن المرزبان أخباره وأشعاره. ولد سنة أربع وعشرين ومائتين وتوفي بواسط سنة ست وعشرين وثلاثمائة وقيل سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. (ابن خلكان ج 1 ص 57 و «فهرست ابن النديم» ص 145).
[3] هو أبو عبد اللّه محمد بن خلف بن المرزبان. كان حافظا للأخبار والأشعار والملح. وله من الكتب كتاب «الحاوي في علوم القرآن» كبير سبعة وعشرون جزءا وكتاب «أخبار ابن قيس الرقيات» ومختار شعره وكتاب «المتيمين المعصومين» وغير ذلك. («فهرست ابن النديم» ص 149).
[4] هو أبو القاسم جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب أحد مشايخ الكتاب وعلمائهم. وكان وافر الأدب حسن المعرفة. وله مصنفات في صنعة الكتابة وغيرها. حدّث عن أبي العيناء الضرير وحماد بن إسحاق الموصلي والمبرد ومحمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعي ونحوهم. وروى عنه أبو الفرج الأصبهاني. وله شعر جيد رواه ياقوت في «معجم الأدباء». مات سنة تسع عشرة وثلاثمائة (انظر الجزء الثاني من «معجم الأدباء» ص 412).
[5] هو أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى بن أبي منصور. ولد سنة إحدى وأربعين ومائتين ومات سنة ثلاثمائة. ونادم الموفق ومن بعده من الخلفاء. وكان متكلما معتزليّ المذهب، وكان له مجلس يحضره جماعة من المتكلمين بالحضرة. وله كتاب «الباهر في أخبار شعراء مخضرمي الدولتين» لم يتمه وأتمه من بعده ابنه أبو الحسن أحمد بن يحيى. («فهرست ابن النديم» ص 143).
[6] يروي أبو الفرج عن عمه كثيرا، وهو الحسن بن محمد، وكان من كبار الكتاب بسرّ من رأى، أدرك أيام المتوكل. ويروي كذلك عن عم أبيه عبد العزيز بن أحمد بن الهيثم وهو من كبار الكتاب أيضا أيام المتوكل. («الجمهرة» لابن حزم ص 103 من النسخة التيمورية).
[7] هو أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي الدار قطني. كان عالما حافظا فقيها أخذ الفقه عن أبي سعيد الإصطخري الفقيه الشافعي. وقد انفرد بالإمامة في علم الحديث، وتصدّر في اخر أيامه للإقراء ببغداد. وكان عارفا باختلاف الفقهاء، ويحفظ كثيرا من دواوين العرب. وصنف كتاب «السنن» و «المختلف» و «المؤتلف» وغيرهما. وكان متفننا في علوم كثيرة، إماما في علم القرآن. ولد سنة ست وثلاثمائة وتوفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة ببغداد.

قطّ من يحفظ مثله، ويحفظ دون ذلك من علوم أخر: منها اللغة والنحو والخرافات والمغازي والسير، ومن آلة المنادمة شيئا كثيرا مثل علم الجوارح والبيطرة ونتف من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك، وله شعر يجمع إتقان العلماء وإحسان ظرفاء الشعراء».
وذكره أبو منصور الثعالبي في «يتيمة الدهر» فقال:
«و كان من أعيان أدبائها (بغداد) وأفراد مصنفيها. وله شعر يجمع إتقان العلماء وإحسان ظرفاء الشعراء».
وذكره ابن النديم في «الفهرست» فقال:
«كان شاعرا مصنفا أديبا، وله رواية يسيرة، وأكثر تعويله كان في تصنيفه على الكتب المنسوبة الخطوط أو غيرها من الأصول الجياد». ويؤيد هذا أنه في كتابه «الأغاني» يروي كثيرا من الأخبار بقوله: «نسخت من كتاب فلان».
قدح بعض العلماء في صحة روايته
ذكره ابن الجوزي في كتابه «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» فقال:
«إنه كان متشيعا ومثله لا يوثق بروايته فإنه يصرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهوى شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب «الأغاني» رأى كل قبيح ومنكر».
ونقل ابن شاكر في كتابه «عيون التواريخ» أن الشيخ شمس الدين الذهبيّ قال:
«رأيت شيخنا تقيّ الدين بن تيمية يضعفه ويتهمه في نقله ويستهول ما يأتي به، وما علمت فيه جرحا إلا قول ابن أبي الفوارس: خلط قبل ما يموت».
شيء من أوصافه
لم يكن لأبي الفرج الأصفهاني عناية بنظافة جسمه وثيابه؛ فقد حدّث الرئيس أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابىء في الكتاب الذي ألفه في أخبار الوزير المهلبيّ قال: كان أبو الفرج الأصفهاني وسخا قذرا لم يغسل له ثوبا منذ فصّله إلى أن قطعه، وكان الناس على ذلك يحذرون لسانه ويتقون هجاءه ويصبرون في مجالسته ومعاشرته ومؤاكلته ومشاربته على كل صعب من أمره؛ لأنه كان وسخا في نفسه ثم في ثوبه وفعله، حتى إنه لم يكن ينزع درّاعة يقطعها إلا بعد إبلائها وتقطيعها، ولا يعرف لشيء من ثيابه غسلا ولا يطلب منه في مدّة بقائه عوضا.
وحكى القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي في كتاب «نشوار» [1] المحاضرة «أن أبا الفرج كان أكولا نهما، وكان إذا ثقل الطعام في معدته تناول خمسة دراهم فلفلا مدقوقا ولا يؤذيه ولا تدمع منه عيناه، وهو مع ذلك لا يستطيع أن يأكل حمصة واحدة أو يصطبغ [2] بمرقة قدر فيها حمص، وإذا أكل شيئا يسيرا من ذلك شري [3] بدنه كله من ذلك، وبعد ساعة أو ساعتين يفصد وربما فصد لذلك دفعتين». قال: وأسأله عن سببه فلا يكون عنده علم منه.
__________
[1] النشوار في الأصل بكسر النون: ما تبقيه الدابة من علفها فارسي معرّب. وهذا الكتاب قد طبع بالقاهرة سنة 1921 م وقام بتصحيحه المستشرق الانكليزي المعروف د. س مرجليوث.
[2] يصطبغ: يأتدم.
[3] الشرى: شيء يخرج على الجسد أحمر كهيئة الدراهم، وقيل: هو شبه البثر يخرج في الجسد أو هو خراج صغار لها لذع شديد، يقال: شرى جلده شرى فهو شر.

ويقال: إنه لم يدع طبيبا حاذقا على مرور السنين إلا سأله عن سببه فلا يجد عنده علما ولا دواء. فلما كان قبل فالجه [1] بسنوات ذهبت عنه العادة في الحمص فصار يأكله ولا يضرّه، وبقيت عليه عادة الفلفل.
اتصاله بالوزير المهلبيّ
كان أبو الفرج منقطعا إلى الوزير المهلبيّ - وهو الحسن بن محمد بن هارون من ولد المهلّب بن أبي صفرة ووزير معز الدولة بن بويه الديلمي - ومن ندمائه الخصيصين به؛ وله فيه غرر ومدائح. ومع ما كان يصنعه الوزير بأبي الفرج لم يخل من هجوه، قال فيه:
أبعين مفتقر إليك رأيتني ... بعد الغنى فرميت بي من حالق
[2] لست الملوم أنا الملوم لأنني ... أمّلت للإحسان غير الخالق [3]
وحدّث أبو الفرج عن نفسه قال: سكر الوزير المهلبيّ ليلة ولم يبق بحضرته من ندمائه غيري فقال لي: يا أبا الفرج، أنا أعلم أنك تهجوني سرّا، فاهجني الساعة جهرا، فقلت: اللّه اللّه أيها الوزير فيّ! إن كنت قد مللتني انقطعت، وإن كنت تؤثر قتلي، فبالسيف إذا شئت؛ قال: دع ذا، لا بدّ أن تهجوني، وكنت قد سكرت فقلت:
أير بغل بلولب

فقال في الحال مجيزا:
في حر امّ المهلّبي

هات مصراعا آخر؛ فقلت: الطلاق لازم للأصفهانيّ إن زاد على هذا وإن كان عنده زيادة.
قال الرئيس أبو الحسين المهلبيّ: وحدّثني جدّي، وسمعت هذا الخبر من غيره لأنه متفاوض متعاود، أن أبا الفرج كان جالسا في بعض الأيام على مائدة أبي محمد المهلبيّ فقدّمت سكباجة [4] وافقت من أبي الفرج سعلة فبدرت من فمه قطعة من بلغم فسقطت وسط الغضارة [5]، فتقدّم أبو محمد برفعها، وقال: هاتوا من هذا اللون في غير هذه الصحفة؛ ولم يبن في وجهه إنكار ولا استكراه، ولا داخل أبا الفرج في هذه الحال استحياء ولا انقباض.
هذا إلى ما يجري هذا المجرى على مضيّ الأيام. وكان أبو محمد عزوف [6] النفس بعيدا من الصبر على مثل هذه الأسباب، إلا أنه كان يتكلف احتمالها لورودها من أبي الفرج. وكان من ظرفه في فعله ونظافته في مأكله أنه كان إذا
__________
[1] الفالج: داء معروف يسترخي منه أحد شقي البدن.
[2] الحالق: الجبل المرتفع.
[3] نقل ابن خلكان في كتابه «وفيات الأعيان» (طبع بولاق ج 1 ص 50): أن الشيخ تاج الدين الكندي روى للمتنبي هذين البيتين بالإسناد الصحيح المتصل به، وقال ابن خلكان: إنهما لا يوجدان في «ديوانه». ونقل ابن شاكر في «عيون التواريخ» كلام ابن خلكان ثم قال: والصحيح أن هذين البيتين لأبي الفرج الأصبهاني.
[4] قال في «شرح القاموس» (مادة سكبج): السكباج بالكسر: معرب سركه باچه، وهو لحم يطبخ بخل. وفي كتاب «الأطعمة» الفتوغرافي المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم 51 علوم معاشية في وصف صنع هذا الطعام ما نصه: «يؤخذ من اللحم قدر الحاجة ويقطع من الأوساط ويغسل نظيفا ويضاف إليه حوائجه مثل الجوز والبصل والكراث وشيء من اللفت ويعدّل بالخل والدبس ويصبغ بالزعفران ويعدل ملحه وأبازيره ويغطى رأس القدر ويجعل في التنور طول الليل على نار معتدلة إلى بكرة ثم يرفع».
[5] عبارة «اللسان»: «الغضار: الطين الحرّ. ابن سيده وغيره - الغضارة: الطين الحرّ. وقيل الطين اللازب الأخضر والغضار: الصحفة المتخذة منه».
[6] يقال: عزفت نفسه عن الشيء أي عافته وكرهته.

أراد أكل شيء بملعقة كالأرز واللبن وأمثاله، وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجا مجرودا [1] - وكان يستعمله كثيرا - فيأخذ منه ملعقة يأكل بها من ذلك اللون لقمة واحدة ثم يدفعها إلى غلام آخر قام من الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى حتى ينال الكفاية، لئلا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة ثانية. فلما كثر على المهلبيّ استمرار ما قدّمنا ذكره جعل له مائدتين: إحداهما كبيرة عامة، وأخرى لطيفة خاصة، وكان يؤاكله عليها من يدعوه إليها.
وكانت صحبته للمهلبيّ قبل الوزارة وبعدها إلى أن فرّق بينهما الموت.
تشيّعه
كان أبو الفرج الأصبهانيّ، مع كونه من صميم بني أمية، على مذهب الشيعة. فقد قال التنوخيّ عنه: ومن المتشيعين الذين شاهدناهم أبو الفرج الأصفهاني. وقال ابن شاكر في «عيون التواريخ» عنه: إنه كان ظاهر التشيع.
وقال ابن الأثير في كتاب «الكامل»: وكان أبو الفرج شيعيا، وهذا من العجب.
شعره وأدبه
كان أبو الفرج كاتبا لركن الدولة حظيا عنده محتشما لديه. وكان يتوقع من الرئيس أبي الفضل بن العميد أن يكرمه ويبجّله ويتوفّر عليه [2] في دخوله وخروجه، وعدم ذلك منه فقال:
مالك موفور فما باله ... أكسبك التّيه على المعدم
ولم إذا جئت نهضنا وإن ... جئنا تطاولت ولم تتمم
وإن خرجنا لم تقل مثل ما ... نقول «قدّم طرفه قدّم»
إن كنت ذا علم فمن ذا الذي ... مثل الذي تعلم لم يعلم
ولست في الغارب من دولة ... ونحن من دونك في المنسم [3]
وقد ولينا وعزلنا كما ... أنت فلم نصغر ولم نعظم
تكافأت أحوالنا كلّها ... فصل على الإنصاف أو فاصرم
وكتب أبو الفرج إلى المهلبيّ يشكو الفأر ويصف الهرّ:
يا لحدب الظهور قصع الرقاب ... لدقاق الأنياب والأذناب
خلقت للفساد مذ خلق الخل ... ق وللعيث والأذى والخراب
ناقبات في الأرض والسقف والحي ... طان نقبا أعيا على النقّاب
آكلات كلّ المآكل لا تأ ... منها شاربات كلّ الشراب
آلفات قرض الثياب وقد يع ... دل قرض القلوب قرض الثياب
__________
[1] مجرودا: مجلوّا.
[2] توفر على صاحبه: رعى حرماته.
[3] الغارب: ما بين العنق والسنام من البعير. والمنسم: خفه.

زال [1]
همّي منهن أزرق ترك ... يّ السّبالين [2] أنمر [3] الجلباب
ليث غاب خلقا وخلقا فمن لا ... ح لعينيه خاله ليث غاب
ناصب طرفه إزاء الزوايا ... وإزاء السقوف والأبواب
ينتضي الظفر حين يطفر للصي ... د وإلا فظفره في قراب
لا ترى أخبثيه عين ولا يع ... لم ما جنّتاه [4] غير التراب
قرّطوه [5] وشنّفوه [6] وحلّو ... ه أخيرا وأوّلا بالخضاب
فهو طورا يمشي بحلي عروس ... وهو طورا يخطو على عنّاب
حبذا ذاك صاحبا هو في الصح ... بة أوفى من أكثر الأصحاب
وقال من قصيدة المهلّب عيديّة:
إذا ما علا في الصدر للنهي والأمر ... وبثّهما في النفع منه وفي الضر
وأجرى ظبا [7] أقلامه وتدفّقت ... بديهته كالمستمدّ من البحر
رأيت نظام الدرّ في نظم قوله ... ومنثوره الرقراق في ذلك النثر
ويقتضب المعنى الكثير بلفظة ... ويأتي بما تحوي الطوامير [8] في سطر
أيا غرّة الدهر ائتنف غرّة الشهر ... وقابل هلال الفطر في ليلة الفطر
بأيمن إقبال وأسعد طائر ... وأفضل ما ترجوه في أفسح العمر
مضى عنك شهر الصوم يشهد صادقا ... بطهرك فيه واجتنابك للوزر
فأكرم بما خطّ الحفيظان منهما ... وأثنى به المثنى وأطرى به المطرى
وزكّتك أوراق المصاحف وانتهى ... إلى اللّه منها طول درسك والذكر
وقبضك كفّ البطش عن كل مجرم ... وبسطكها بالعرف في الخير والبرّ
وله فيه:
وهذا الشتاء كما قد ترى ... عسوف [9] عليّ قبيح الأثر
__________
[1] زال: فرق.
[2] السبالان: الشاربان.
[3] الأنمر: ما فيه نمرة بيضاء وأخرى سوداء.
[4] جن الشي ء: أخفاه وستره.
[5] قرّطوه: ألبسوه القرط.
[6] شنفوه: جعلوا له شنفا وهو القرط.
[7] الظبا: جمع ظبة، وهي في الأصل حدّ. السيف أو السنان ونحوه.
[8] جمع طومار أو طامور وهو الصحيفة.
[9] العسوف: الجائر الظلوم.

يغادي بصرّ [1] من العاصفا ... ت أو دمق [2] مثل وخز الإبر
وسكّان دارك ممن أعو ... ل يلقين من برده كلّ شرّ
فهذي تحنّ وهذي تئنّ ... وأدمع هاتيك تجري درر [3]
إذا ما تململن تحت الظلام ... تعلّلن منك بحسن النظر
ولا حظن ربعك، كالممحلي ... ن شاموا البروق رجاء المطر
يؤمّلن عودي بما ينتظرن ... كما يرتجى آئب من سفر
فأنعم بإنجاز ما قد وعدت ... فما غيرك اليوم من ينتظر
وعش لي وبعدي فأنت الحيا ... ة والسمع من جسدي والبصر
وقال من قصيدة يهنئه بمولود من سرّية روميّة:
اسعد بمولود أتاك مباركا ... كالبدر أشرق جنح ليل مقمر
سعد لوقت سعادة جاءت به ... أمّ حصان [4] من بنات الأصفر
متبحبح [5] في ذروتي شرف العلا ... بين المهلّب منتماه وقيصر
شمس الضحى قرنت إلى بدر الدّجى ... حتى إذا اجتمعا أتت بالمشترى
ولما تولّى أبو عبد اللّه البريدي الوزارة هجاه أبو الفرج بقيصدة طويلة أوّلها:
يا سماء اسقطي ويا أرض ميدي ... قد تولّى الوزارة ابن البريدي
ومنها:
يا لقومي لحرّ صدري وعولي ... وغليلي وقلبي المعمود [6]
حين سار الخميس [7] يوم خميس ... بالبريديّ في ثياب سود
قد حباه بها الإمام اصطفاء ... واعتمادا منه لغير عميد
خلع تخلع العلا ولواء ... عقده حلّ عقدة المعقود
وقال أبو الفرج الأصبهانيّ: بلغ أبو الحسن جحظة أن مدرك بن محمد الشيباني الشاعر ذكره بسوء في مجلس كنت حاضره، فكتب إليّ:
__________
[1] ريح صرّ: شديدة الصوت أو البرد.
[2] الدمق: الريح والثلج.
[3] درر: جمع درّة، والدرّة في الأمطار أن يتبع بعضها بعضا.
[4] الحصان: العفيفة.
[5] متبحبح: متمكن.
[6] المعمود: من عمده أي أضناه وأوجعه.
[7] الخميس: الجيش لأنه خمس فرق: المقدّمة. والقلب والميمنة والميسرة والساقة.

أبا فرج أهجى لديك ويعتدى ... عليّ فلا تحمي لذاك وتغضب
فكتبت إليه:
لعمرك ما أنصفتني في مودّتي ... فكن معتبا إنّ الأكارم تعتب
عجبت لما بلّغت عنّي باطلا ... وظنّك بي فيه لعمرك أعجب
ثكلت إذا نفسي وعرسي وأسرتي ... بفقدي ولا أدركت ما كنت أطلب
فكيف بمن لا حظّ لي في لقائه ... وسيّان عندي وصله والتجنّب
فثق بأخ أصفاك محض مودّة ... تشاكل منها ما بدا والمغيّب
وقال من قصيدة يرثي بها ديكا وهي من أجود ما قيل في مراثي الحيوان:
خطب طرقت به أمرّ طروق ... فظّ الحلول عليّ غير شفيق
فكأنما نوب الزمان محيطة ... بي راصدات [1] لي بكلّ طريق
حتى متى تنحي [2] عليّ صروفها ... وتغصّني فجعاتها بالريق
ذهبت بكل مصاحب ومناسب ... وموافق ومرافق وصديق
حتى بديك كنت آلف قربه ... حسن إليّ من الديوك رشيق
ومنها:
لهفي عليك أبا النذير لو انّه ... دفع المنايا عنك لهف شفيق
وعلى شمائلك اللواتي ما نمت ... حتى ذوت من بعد حسن سموق [3]
لما بقعت [4] وصرت علق مضنّة [5] ... ونشأت نش ء المقبل الموموق [6]
وتكاملت جمل الجمال بأسرها ... لك من جليل واضح ودقيق
وكسيت كالطاوس ريشا لا معا ... متلألئا ذا رونق وبريق
من حمرة في صفرة في خضرة ... تخييلها يغنى عن التحقيق
عرض يجلّ عن القياس وجوهر ... لطفت معانيه عن التدقيق
وخطرت ملتحفا ببرد حبّرت [7] ... منه بديع الوشي كفّ أنيق
__________
[1] راصدات: راقبات.
[2] تنحى: تقبل.
[3] سموق: علو وارتفاع.
[4] يقال: بقع الطير: أي اختلف لونه فهو أبقع.
[5] العلق: النفيس من كل شيء. ويقال: هذا الشيء علق مضنة أي يضنّ به.
[6] الموموق: المحبوب.
[7] حبرت: حسنت.

كالجلّنارة [1] أو صفاء عقيقة ... أو لمع نار أو وميض بروق
أو قهوة [2] تختال في بلّورة ... بتألّق الترويق [3] والتصفيق [4]
وكأنّ سالفتيك [5] تبر سائل ... وعلى المفارق [6] منك تاج عقيق
وكأنّ مجرى الصوت منك إذا نبت ... وجفت عن الأسماع بحّ [7] حلوق،
ناي [8] دقيق ناعم قرنت به ... نغم مؤلّفة من الموسيقى
ومنها:
أبكي إذا أبصرت ربعك موحشا ... بتحنّن وتأسّف وشهيق
ويزيدني جزعا لفقدك صادح [9] ... في منزل دان إليّ لصيق
قرع [10] الفؤاد وقد زقا فكأنّه ... نادى ببين أو نعيّ شقيق
فتأسّفي أبدا عليك مواصل ... بسواد ليل أو بياض شروق
وإذا أفاق ذوو المصائب سلوة ... وتصبّروا أمسيت غير مفيق
قال أبو الفرج: كنت انحدرت إلى البصرة، ولمّا وردتها أصعدت إلى سكّة قريش أطلب منزلا أسكنه؛ لأني كنت غريبا لا أعرف أحدا من أهلها إلا من كنت أسمع بذكره، فاستأجرت بيتا في خان، وأقمت في البصرة أياما ثم خرجت عنها طالبا حصن مهدي؛ وكتبت هذه الأبيات على حائط البيت الذي أسكنه:
الحمد للّه على ما أرى ... من صنعتي من بين هذا الورى
أصارني الدهر إلى حالة ... يعدم فيها الضيف عندي القرى
بدّلت من بعد الغنى حاحة ... إلى كلاب يلبسون الفرا [11]
أصبح أدم السّوق لي مأكلا ... وصار خبز البيت خبز الشّرا
وبعد ملكي منزلا مبهجا ... سكنت بيتا من بيوت الكرا
فكيف ألفى لاهيا ضاحكا ... وكيف أحظى بلذيذ الكرى
__________
[1] الجلنار: زهر الرمان، معرّب كلنار.
[2] القهوة: الخمر.
[3] الترويق: التصفية.
[4] التصفيق يقال: صفق فلان الشراب إذا حوّله من إناء إلى إناء ليصفو.
[5] السالفتان: صفحتا العنق.
[6] المفارق: جمع مفرق، وأصله وسط الرأس الذي يفرق فيه الشعر. والمراد هنا أعالي الرأس.
[7] بح: جمع أبح من البحة وهي خشونة وغلظ في الصوت.
[8] الناي: من آلات اللهو أعجمي معرّب، وعربيه رمخر ومزمار.
[9] صادح: وصف، من قولهم: صدح الديك أي رفع صوته.
[10] قرع الفؤاد: فجأه.
[11] الفرا: مقصور الفراء جمع فروة، وهي جلود حيوان تدبغ وتخاط وتبطن بها الثياب فتلبس اتقاء البرد.

سبحان من يعلم ما خلفنا ... وبين أيدينا وتحت الثرى
والحمد للّه على ما أرى ... وانقطع الخطب وزال المرا
وقال من قصيدة:
وإذا رأيت فتى بأعلى رتبة ... في شامخ من عزّه المترفّع
قالت لي النفس العزوف بفضلها ... ما كان أولاني بهذا الموضع
قال:
الدهر يلعب بالفتى فيهيضه ... طورا ويجبر عظمه فيراش [1]
وكذا رأينا الدهر في إعراضه ... ينحى وفي إقباله ينتاش [2]
ومما قال في النسيب:
أدلّ [3] فيا حبّذا من مدلّ ... ومن ظالم لدمي مستحلّ
إذا ما تعزّز قابلته ... بذلّ وذلك جهد المقلّ
وقال من أبيات:
مرّت بنا تخطر في مشيها ... كأنما قامتها بانه
هبّت لنا ريح فمالت بها ... كما تثنّى غصن ريحانه
فتيّمت قلبي وهاجت له ... أحزانه قدما وأشجانه
قال ابن عبد الرحيم: حدّثني أبو نصر الزجاج قال: كنت جالسا مع أبي الفرج الأصبهاني في دكّان في سوق الورّاقين، وكان أبو الحسن علي بن يوسف بن البقّال الشاعر جالسا عند أبي الفتح بن الجزّار الورّاق وهو ينشد أبيات إبراهيم بن العبّاس الصّوليّ التي يقول فيها:
رأى خلّتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلّت
فلما بلغ إليه استحسنه وكرره؛ ورآه أبو الفرج فقال لي: قم إليه فقل له: قد أسرفت في استحسان هذا البيت، وهو كذلك، فأين موضع الصنعة فيه؟ فقلت له ذاك؛ فقال: قوله «فكانت قذى عينيه» فعدت إليه وعرّفته، فقال: عد إليه فقل له: أخطأت، الصنعة في قوله «من حيث يخفى مكانها». قال ياقوت: وقد أصاب كل واحد منهما حافة من الغرض؛ فإن الموضعين معا غاية في الحسن وإن كان ما ذهب إليه أبو الفرج أحسن.
مؤلفاته
__________
[1] يراش: أي يصير له ريش، والمراد اليسار وحسن الحال. ويقال: راشه يريشه إذا أحسن إليه؛ وأصله من الريش؛ لأن الفقير المملق لا ينهض كالمقصوص الجناح من الطير.
[2] ينتاش: ينقذ؛ يقال: انتاشني فلان من التهلكة، أي أنقذني.
[3] يقال: أدل عليه، إذا وثق بمحبته. فأفرط عليه. ويقال: هي تدلّ عليه أي تجترىء عليه.

2 / 688
ع
En
A+
A-